الاثنين، 27 يوليو 2015

العقل المهاجر إلى الأزمنة المفقودة

 Résultat de recherche d'images pour "‫لكاتب د. نارت قاخون‬‎"

د. نارت قاخون

يلحظ الراصد لتجليات العقل العربي حاضراً، سواء كان فقهيّاً أم حداثيّاً أم يساريّاً أم سلفيّاً أم وسطيّاً، أنّه عقل "مهاجر" إلى التاريخ "ساكن" فيه، على اختلاف مرجعياته وتجليّاته. إذ إن "الحاضر" دوماً هو "فرع لتاريخ ما"؛ فـ"الخير" و"الشرّ" معاً ليسا إلا "ثمرة" من "خير قديم" أو "شرّ قديم". وما اختلاف تجليّات العقل العربيّ حاضراً، إلا في اختلاف مرجعيّة نظرهم لـ"أصل الخير القديم" أو "أصل الشرّ القديم". 
فالاتجاهات المسماة "سلفيّة"، مثلاً، ترى الخير في "فئة مخصوصة" من أهل القرون الماضية "احتكر خيرها" في الأزمنة التالية فئة تُسمى "أهل الحديث"، ثمّ أعاد تجديد احتكارها "ابن تيميّة" ثم "محمد بن عبدالوهاب وأتباعه"؛ فما يزال أتباع هذا الاتجاه يصنّفون "الخير" و"الشرّ" وفق "تأصيل" هذا الاتجاه المختار، داعمين فكرة "تفرّدهم بالصواب" و"احتكارهم لمقياس الخير والشرّ" بجيش من "المرويات" القلقة معرفيّاً وعلميّاً وتاريخيّاً وواقعاً. وهم في نظرتهم للواقع والحاضر، لا يخرجون عن قياس "ما يجب أن يكون في الحاضر" بـ"ما كان في الماضي". و"الماضي" عندهم ليس كلّ الماضي والتاريخ، بل هو "تاريخ مخصوص" يختارونه وفق سلسلة من "التكرار" و"إعادة الإنتاج" و"الانتقاء والإقصاء"، لتأكيد امتلاكهم "الأصل النقي الصحيح" الذي يحتكر "الخير" أصلاً وفرعاً. وكأنّ حركة الزمان والمكان الممتدة قروناً، والخبرة الإنسانيّة المتراكمة المتغيّرة، بل المتقلّبة، لا تشكّل أكثر من "حاشية تاريخيّة" ليس لها أثر في "الأصول" و"نموذج النّظر والاحتكام"، جاهلين أو متجاهلين أنّ "الأصل التاريخيّ" الذي سكنوا إليه وجعلوه "ثابتاً قارّاً أصلاً" لكلّ ما يتلوه، هو "حدث في التاريخ" أيضاً، و"حالة من السيولة في سيرورة التاريخ"، حاولت أن تستجيب لآفاق عصرها بما تستطيع من إجابات، وهي حجة -إن كانت حجة- على زمانها وتاريخها، لها ما لها وعليها ما عليها في زمانها ومكانها اللذين أثرا فيها وأنتجاها.
هذا السكون إلى "التاريخ" والهجرة إلى "الماضي" تفسيراً للحاضر، ورسماً له على قدّ "التاريخ الموهوم"، ليس سمة فريدة خاصة بالاتجاهات الموسومة بـ"السلفيّة الدينيّة"، بل هو حاضر بالقوة نفسها عند كثير ممن يقدّم نفسه "تجديديّاً عقلانيّاً" مثلاً، أو "حداثياً ليبرالياً" أو "ثوريّاً يساريّاً"؛ فهؤلاء -في أغلب تجليّات عقلهم وفكرهم- يهاجرون إلى التاريخ ويسكنون فيه أيضاً، وما الاختلاف إلا في أمرين:
1. اختلاف في "اللحظة التاريخيّة"؛ زماناً ومكاناً وشخوصاً من تلك التي تنتمي إلى "تاريخنا" وتُرسّم "مرجعاً وأصلاً ونموذجاً". فإذا كانت "السلفيّة" ترى في ما يُعرف بـ"أحمد بن حنبل" و"أهل الحديث" و"ابن تيميّة" و"محمد بن عبدالوهاب"، نموذجاً وسلسلة مقدّسة ذهبيّة، فإنّ جمعاً من "أهل التجديد" وجدوا في "المعتزلة" نموذجاً تاريخياً وأصلاً مرجعيّاً يُعاد إنتاج "بعض مقالته" لمواجهة "العصر وتحديّاته"، تحت إغراء "المقابلة" الاختزاليّة تاريخيّاً وحاضراً بين "العقل والنقل" وأهلهما.
والدارس للتاريخ وتاريخ الأفكار بما هو تاريخ، يعلم أنّ "المعتزلة" حالهم كحال أيّ "استجابة تاريخيّة" قدّمت حلولاً ناجعة في أبواب، وأنتجت في الوقت نفسه "مشاكل مؤرّقة" في أبواب أخرى. وهذه ليست مزيّة أو عيباً في "المعتزلة" أو غيرهم من المذاهب إذا ما نظرنا إلى نتاجهم الفكريّ في ظلّ "الشروط التاريخيّة والحضاريّة" التي أنتجت هذا الفكر. لكن المشاكل تتفاقم، والمنافع تتضاءل، حين يصرّ أبناء "الحاضر" على "استعارة" هذه النماذج التاريخيّة "نماذج اختزاليّة" تتحكّكم بما هو "خير وشر" وتحتكر "النموذج التأصيليّ" الذي لا يكون "الواقع والحاضر" إلا فرعاً عنها وثمرة لها بالضرورة.
2. تزاحم في "اللحظة التاريخيّة" المنتقاة والمطوّبة "أصلاً ونموذجاً" بين لحظة تنتمي إلى "تاريخنا" وأخرى تنتمي إلى "تاريخ غيرنا". فتجد "الحداثيين" و"اليساريين" و"الليبراليين" وغيرهم، مسكونين بتاريخ "خليط" بين "تاريخ غيرنا" و"تأويل تاريخنا" يجعلونه "الأصل" و"النموذج" الذي لا يُمكن قراءة "الحاضر" من دون "القياس عليه"، فيتحدّثون عن حاجتنا إلى "ثورة بروتستانتية" تحاكي ما يُسمّى بـ"ثورة الإصلاح الديني في الغرب"، جاهلين أو متجاهلين أنّ لهذه "الثورة" سياقات ماديّة وبيئية وجغرافيّة واقتصادية وثقافية ودينية وسياسية وحضارية لا تتطابق بالضرورة وسياقات سيرورتنا وحاضرنا، من دون أن يعني ذلك أنّ الواقع الإسلاميّ وامتداده التاريخي والمستقبليّ يمثّل حالة "فريدة خاصة" لا تقبل التقاطع مع غيرها؛ فكثير من العوامل الماديّة والعوامل الحضاريّة تتجاوز خصوصيّة التجربة الثقافيّة وانحيازاتها، إلى أفق التجربة الإنسانيّة والخبرة الجمعيّة القابلة للبقاء والاستثمار في الأزمنة المتوالية. ومن دون أن يعني ذلك، أيضاً، أنّ "إصلاح العقل الدينيّ" ليس مطلباً ضروريّاً في السياق الإسلاميّ؛ بل تظهر أسباب هذا الإصلاح ومسوّغاته في اللحظة الراهنة أكثر من أي وقت سابق، لكنه إصلاح ينطلق من واقع الخبرة الدينيّة المسلمة، مستلهماً تاريخنا وتاريخ غيرنا من دون إسقاط وتحكّم يجعلان "الواقع" أقلّ أطراف المعادلة حضوراً. 
والمشكلة أنّ "العقل المهاجر إلى التاريخ"، على اختلاف تجليّاته مع اتّفاق آلياته، يستطيع لعوامل كثيرة أن يقدّم مشروعيّته في الزمن الحاضر؛ فهو عبر "تأويل التاريخ" و"تأويل الواقع" يُعيد تشكيلهما ليكون "الثاني" فرعاً عن "الأوّل" بالضرورة. لذلك، يصبح التأويل كما هو في تجربتنا الفكريّة، بل في التجربة "الهرمينوطيقية" الغربيّة، وسيلة "لاستعادة الماضي" نصّاً وحدثاً، لتحقيق معادلة تسهل حيناً وتصعب أحياناً، تنتهي إلى "المواءمة والتواطؤ" بين ما كان وما هو كائن ويكون. وهذه التأويليّة تمتح عناصر قوّتها من تلك الرغبة الكامنة في العقل الإنسانيّ عموماً بدوام "الوصل التاريخيّ"، وصيانة "السلالة التاريخيّة الفكريّة" من الانقطاع و"الطفرات" و"النبت الشيطانيّ" الذي لا آباء له ولا أجداد؛ فالفكر الإنسانيّ يميل عموماً إلى المماهاة بين "تاريخ الإنسان" و"تاريخ الأفكار"، فكما لكلّ إنسان "سلالة" ينتمي إليها تحدّد "هويته" و"انتماءه" و"شرعيّة حاضره ومستقبله" فكذلك الأفكار. وهذا من وجهة نظري تماهٍ "تأويليّ" يملك من مقومات الخطأ والمغالطة مثل ما يملك من مقومات الإغراء والجاذبيّة. فهل نستطيع أن ننفك عن هذه "الرغبة" في الوصل التاريخيّ لنؤسّس "عقلاً" لا يسكن في التاريخ، بل يسكن حيث هو فعلاً؛ أي في الحاضر بما هو حاضر، فيه من "بقايا التاريخ وثماره"، لكن فيه ما هو "نبت زمانه" الذي لا أصل له في الماضي بالضرورة؟
هل نستطيع أن نرى "الواقع" في ظلّ إمكانيّة الحاضر أن ينشئ "وقائع جديدة" و"شروطاً مستجدّة"؟ هل يُمكن للعقل العربي الفقهي والحداثي والسياسيّ والعلمانيّ أن يجترح فكره وعقله من دون أن يظلّ مسكوناً بنماذج "تاريخيّة" أو "تكراريّة" لا ترى جديداً تحت الشمس؟
قد يسهل على الإنسان عموماً أن يقبل في "العلم المجرّد" مثل هذه الانقطاعات والتحولات الجذريّة، بل الانقلابات. لكن يصعب عليه متى كان الأمر متماساً مع ثقافته، بمكوناتها الدينيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة، أن يتحمّل عبء "المفاصلة" و"الانقطاع" و"الانقلاب". فالصواب القيمي وعيار الخيريّة والشريّة ما يزال يُنظر إليه من منظور "المطلق المتجاوز للزمان والمكان"، وهو منظور احتيالي يجعل "الماضي" عياراً، متجاهلاً أنّ "الماضي" نفسه كان حاضراً ومستقبلاً لماضٍ غيره، ثمّ يهرب إلى الوراء أكثر فأكثر، حتى يهرب خارج "الزمان والمكان" زاعماً أنّ عيار "الخير والشرّ" مطلقان يعودان بأصليهما إلى "مطلق كلّي" يتجاوز الزمان والمكان وشروطهما متناسياً أنّ "الإنسان" بما هو إنسان قابل للانفكاك عن آبائه وأجداده في "صلاحه" و"فساده"، فكيف بأفكاره وحلول مشاكله؟

0 التعليقات: