الخميس، 9 يوليو 2015

الثقافة العربية بين أزمة الآخر والبديل: الاعتقاد بأصولية الفكر الشرقي أدى للتنافر بينه وبين الفكر الغربي

باسم توفيق/القدس العربي 
في بعض الأحيان تكون الإجابات على الأسئلة البديهية البسيطة مستحيلة وغير ممكنة، على الرغم من بساطة هذه الأسئلة التي نطرحها وبشكل مستمر، وهذا ينطبق بشكل حصري على الثقافة العربية وآلياتها، فالمطروح فيها من أسئلة بديهية وبسيطة أصبح من المستحيل الرد عليه وأصبحت البلبلة وانحسار الرؤية أحد سمات استطلاع هذا المشهد الثقافي العربي بشكل عام، ومن دون استثناءات مسبقة.
وربما أسباب التباس المشهد الثقافي العربي واضحة وجلية، لكنها بحاجة لتفنيد وتصنيف لأن المعروف هنا في منطقتنا العربية أن فوضى التفسير وعدم أخذنا بمبدأ التأطير يجعل من الحقيقة المطروحة لغزا تائها وعصيا على الفهم.
منذ أكثر من ثلاثة عقود وأخبار الثقافة العربية عالميا لا تقدم لنا أي دليل على أن منطقتنا العربية، بل ربما معظم العالم الشرقي يسير في اتجاه صحيح نحو فكرة ثقافية متماسكة ومتجذرة ولها قيمة، أي أن المسألة الفكرية في وطننا العربي تسير بخطى قوية نحو اللاقيمة والأدلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، ويأتي على رأسها إقصاء الفكر الشرقي بشكل صريح عن ساحة الجدل العالمي وتحييد الطرح الفكري العربي بوصفة متطرفاً يحمل بذور الصراع الدموي الذي يغذي التطرف، باعتبار أن الفكر الديني الأرثوذوكسي هو الجذر الأصلي للفكر الشرقي، والمقصود بالأرثوذوكسي هنا ليس المسيحي، كما قد يعتقد البعض، بالطبع لا لأن كلمة أرثوذوكسي تعني الأصلي او المستقيم أو السلفي .. ومن هنا فإن السلفية الإسلامية تعتبر أرثوذكسية بالمقارنة مع ليبرالية الفكر الإسلامي الحديث، كذلك الأرثوذكسية المسيحية تعتبر أرثوذكسية بالنسبة للمسيحية اللاحقة، سواء كاثوليكية أو بروتستانتية.. من هنا يعتبر الغرب أن الفكر الشرقي، سواء الذي يعتقد أن الإسلام السلفي هو الملهم لها، أو سواء اعتقد أن المسيحية الأرثوذكسية هي النبع الذي يغذية بضوابط وحدود، سواء هذا أو ذاك فإن الفكر الغربي يميل أكثر لإقصاء الفكر الشرقي عن ساحة الجدل بوصفة قاسما مشتركا في عالم واقعي يعيشه.
من هنا بدأت الفكرة الثقافية العربية تنمو في معزل عن التنظير تجاه الآخر، أي الفكر الغربي، ولعل هذه الحساسية في ضمير الفكر الشرقي باعتباره مقصى عن شواغل الآخر هذا الاقصاء زرع فكرة عداء الآخر ولو في اللاوعي، من هنا أصبح معظم الإنتاج الفكري العربي يعتبر الآخر الغربي عدوا أو منوطا بتفكيك أصالته وهذه هي أولى الأسباب التي خلقت التشويش في المشهد الثقافي العربي، من حيث أنها جعلته دائم التحفز تجاة الآخر، ومن ثم استحالة التلاقي الخلاق الذي يخلق إبداعا حقيقيا.
ولعل أهم أسباب انحسار الرؤية في المشهد الثقافي العربي هو انشغال المنطقة بتحديد المصير، فأي أمة تمر بظروف سياسية صعبة ولحظات تحديد المصير تتراجع فيها الهمم الثقافية والفكرية بشكل ملحوظ، على اعتبار أن تقرير المصير السياسي وربما الكيان القومي أهم من مسألة الطرح الثقافي، والتاريخ أكبر مثال على ذلك، فمثلا أثينا تقوضت دعائمها بوصفها منارة الفكر في العالم القديم منذ بدأ حروب البوليبونيسوس بين دويلات البحر الأيجي، التي انتهت بوقوع أثينا في يد الغول المقدوني فيليب الثاني والد الإسكندر الأكبر.. ومن ثم انتقلت الريادة الفكرية للاسكندرية في ما بعد.. والأمثلة كثيرة. من ثم فإن أمتنا العربية وانهماكها في تقرير مصيرها كأمه تعاني قصورا سياسيا كبيرا جعلها في مؤخرة الأمم المعنية بوجود مشهد ثقافي متماسك ومتمازج يتقبل الأخر بل ويعترف بالأغيار. هناك أيضا مسألة تحديد الهوية الفكرية من حيث هي دوغماوية أي تستمد ثقلها من فكرة دينية أو فكرة تحررية بحتة تعتبر الطرح الديني هامشا في فكرها وليس متنا، وهذه القضية من أخطر القضايا التي ربما تقوم عليها أنساق فكرية لأمم، وربما تموت الفكرة الثقافية عند حدها القاتل.. فالفكرة الدينية أو العقائدية ووجودها الدائم في ضمائر الشعوب الشرقية جعل منها في أحايين كثيرة عائقاً نحو تكوين مشهد ثقافي متسق، وليس ذلك إنكارا للفكرة الدينية كمحرك مهم، لكن هذه القضية بالتحديد تعول على كيفية استخدامنا للفكرة الدينية داخل العمل الإبداعي والرؤية الثقافية، فهي إذا تم استخدامها بشكل صحيح أصبحت محركا قويا، وإذا أخطأنا طريقة استخدامها أصبحت معولاً لهدم البناء الثقافي كله، وهذه الفكرة بالتحديد تقودنا لأهم عنصر في ضبابية المشهد العربي الفكري عامة، وهي فكرة غياب التنوير التي في الأساس تعول على مسألة الفكرة الدينية.
فالتنوير بالأساس هو وجود القدرة الحقيقية ووجود منطق عقلاني لتطوير الخطاب الديني، بحيث إذا تهيأ لنا الوصول بالخطاب الديني للشفافية التي تؤهلة لتدعيم روح العصر، مع الاحتفاظ بأصالته كانت هذه هي نقط البدء في وجود تنوير شامل للفكر عامة، ولعل استقراء التاريخ يقدم لنا المثال في ذلك، فمثلا عصر النهضة الذي ملأ العالم ثقافة وفنا وعلما لم يبدأ إلا عندما تراجعت العصور الوسطى بفكرها السوداوي والانهزامي، الذي استخدم الخطاب الديني في التخويف وجعله عقابا وليس ترويحا، كما يجب أن يكون، وبمجرد سقوط فكر العصور الوسطى أمام ظهور التنوير في الخطاب الديني على يد فرانسيس الأسيزي وتوما الأكويني وغيرهما الكثير، بدأ عصر النهضة يطرح ظلام العصور الوسطى وظهر مشهد ثقافي غاية في الروعة والاتساق، وليس التنوير العربي ببعيد عنا، فنحن نعرف أنه بظهور الخطاب الديني التنويري على يد رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبدة، ثم أمين الخولي وغيرهم ظهر المشهد الثقافي العربي في وقت قياسي كند قوي ونظير متماسك للفكر الغربي، وكان العقاد المثقف الهاوي وطه حسين المثقف المحترف وتوفيق الحكيم المبدع المتبحر ولويس عوض الأكاديمي المتمكن، كل هؤلاء وغيرهم كثيرون كانوا فخر المشهد الثقافي العربي الذي ناظر الغرب عقوداً وقدم لهم الند والنظير، والدليل على أن تطوير الخطاب الدوغماوي بكافة آلياته هو المحرك الأقوى لخلق مشهد ثقافي متسق وواضح هو ان معظم من أخذناهم أمثلة نشأوا في بيئات دينية متفاوته وانفتحوا على الآخر ونهلوا من عصارة التنوير الذي بدأه الجيل الذي سبقهم .
إن التخبط في إيجاد جذور أصيلة للفكرة الثقافية العربية أدى لهذه الحالة من التشويش والالتباس، فنحن نتأرجح بين أصالته من حيث هو شعبوي ديني قومي راديكالي مذهبي …. إلخ مع استحالة ضم معظم هذه الجذور في سلة واحدة كاستحالة استنبات نبات واحد من عدة بذور، ومن ثم هناك مسؤولية كبيرة على الأكاديميين والمثقفين الفعليين في توضيح كيفية خلق جذور بنائه لتكوين مشهد ثقافي حقيقي ومتماسك، بل ووضع خطة جادة لتلقين الأجيال الجديدة أسس التفكير والتنظير بشكل حيادي بعيدا عن تشنجات التعصب.
كاتب مصري
باسم توفيق

0 التعليقات: