الأحد، 12 يوليو 2015

حداثات ضد الحداثة

حداثات ضد الحداثة

رشيد المومني
غير بعيد عن تجليات تلك الخلافات الحادة والشرسة القائمة بين مختلف أصناف وأنماط الحداثات الموجودة فينا وحولنا، وهي بالكثرة التي يشيب من غرائبها الولدان.
سنكتفي بالإشارة إلى ذلك الفرق الشاسع والفاصل بين الحداثة القائمة على أرضية التغييب التام لسلطة المقدس، وتلك التي تعتمده رافعةً مركزيةً لها، حيث يصبح الاختلاف هنا ذا طبيعة جذرية، من منطلق أنه اختلاف يخص مكونا مؤسسا وفارقا بالنسبة لقيمِ شعوبٍ، وحضاراتِ أُممٍ، ومن منطلق أن الهوة ستظل حاضرة وبقوة في أي مشروع تواصلي يُحتمل تحقيقه بين التوجهين. ذلك أن الحداثة المحروسة بسلطة المقدس، تنتقد الحداثة العلمانية من منطلق سوء تمثلها التاريخي له، ومن تأويل تنكرها الصارم لقيمه الروحية على قاعدة افتقارها للشروط الاجتماعية والأخلاقية الكفيلة باستمرارية حضوره، حيث ترى أن واجبها الأخلاقي والإنساني يلزمها بدعوة الآخر/ العلماني/ اللآئيكي، إلى وجوب تبني قيمها الدينية الكفيلة وحدها بإنتاج «حداثة حقيقية»، يتكامل فيها الدنيوي بالقداسي. وهو ما يبدو من وجهة نظر الحداثة العلمانية، التي لا تجد أي حرج من المجاهرة بنفورها من كل ممارسة دينية تحد من حرية العقل والجسد، مجرد دعوة لا تاريخية، ينبغي إخلاء المشهد من أي أثر لحضورها، وهو إخلاء غالبا ما يأخذ شكل انتقام لا مشروط من سلطة سبق لها أن مارست ولعدة قرون، هيمنتها الساحقة على الأجساد والأرواح . كما يأخذ شكل استدراك أهوج لأزمنة ظلامية، كانت السيادة الكاملة فيها للاضطهاد العقلي والفكري، بفعل إكراه الشعوب على تبني شرائع كانت – من وجهة نظر الحداثة المتدينة- على درجة كبيرة من الانحراف والضلال. وكما هو واضح فإن الأمر يتعلق بإقصاء متبادل بين الحداثتين، أساسه التباين الكبير في تقييم كل منهما لعلاقة الآخر بالمعتقد الذي يتبناه، حيث يصبح الصراع مقترنا بالجوهري وليس بالعرضي، ولو أن هذا الجوهري لا يعلن عن نفسه دائما.
بمعنى أن المسألة الدينية تكون نسبيا مغيبة في خطاب الحداثة المتدينة، كي لا تتهم بانحيازها إلى السلفية والتخلف، إلا أنها ومع ذلك، تتصدى بالنقد الصارم لمجموع القيم السائدة لدى الحداثة العلمانية، من خلال التركيز على فساد ما تتداوله من قيم منافية للأخلاق وللمسلكيات السوية والطبيعية. كما أنها تتصيد وقوع الكثير من الهزات اللاأخلاقية التي تؤثر بشكل مباشر، على المشهد السياسي، فتعمل على تضخيمها باعتبارها سببا وجيها من أسباب الانتكاسات المستشرية فيه، خاصة حينما يتعلق الأمر برموز سياسية، أو اقتصادية لها وزنها الخاص في عالم المال والأعمال. وفي الجهة المقابلة نجد الحداثة العلمانية تجنح إلى تأويل كل مظاهر التردي الاجتماعي والاقتصادي لدى غريمتها، بوقوع شعوبها تحت رحمة السلط الدينية، كما لو أنها تقوم بعملية إسقاط لماضيها الشخصي على حاضر هذه الشعوب المتدينة. والغريب في الأمر، أن عنف المسألة الدينية لا يناقش عالميا على أرضية التدين العام، بل تتم مركزته في مضارب الخيام الإسلامية، وهو ما يمنح للحداثة السياسية، مبررها المكشوف في الظهور بتلك القدرة الخارقة على اختلاق الأعذار التي تصب في مصلحة هذا أو ذاك، انسجاما مع رؤيتها لمنطق الغلبة. اختلاق أعذار الإطاحة بك من حيث أنت، واختلاق أعذار تكريس الذئب راعيا لقطعان الروح. وكما هو معلوم فإن اختلاق الأعذار هذا أصبح علما له منهجياته، ومدارسه ونظرياته وخبراؤه وضحاياه أيضا، إذ بهذا العلم فقط، يمكن تدبير حركية العالم وفق ما تقتضيه المصالح العليا للمراكز المستفردة بسلطة القرار. إن شراسة الانتقاد الذي تتعرض له الحداثة المتدينة من قبل الحداثة العلمانية، لا يعتمد على المعايير العقلانية التي توظفها هذه الأخيرة في تفسير الأزمات الاقتصادية التي تحدث أن تقع فيها شعوبها، فالأزمة ذاتها التي يمكن أن يتعرض لها الشمال والجنوب في لحظة تاريخية معينة، تؤول بالنسبة للشمال تأويلا تقنيا وعلميا وعقلانيا، لكنها تؤول بالنسبة للجنوب، على ضوء الديني الذي ترى فيه السبب المباشر في ما تسميه بالتخلف الحضاري، وليس مجرد أزمة موضوعية ذات مرجعية اقتصادية أو سياسية. إن التضاد في آلية التحليل والتفسير، يؤدي إلى الكيل بمكيالين من قبل الجهتين المتنحارتين، كما يؤدي إلى التوظيف المغرض والملتبس للمفاهيم. إن هذا التضاد الذي يعلن باستمرار وبصيغه المختلفة عن تفاقمه، يحبط كل أمل في ردم تلك الهوة الفاصلة بين الحداثات، وفي أقل تقدير يحاول حجبها بغبار التسامح الذي لا يلبث أن يتبدد، كي تظل الهوة حاضرة وملحة على الإعلان عن تنامي تداعياتها.
وبقليل من التأمل وإعمال الفكر، يمكن أن نخلص إلى حضور حالة رهاب مزمنة لدى الحداثة العلمانية في ردمها المطلق لمرجعياتها الدينية، وفي تنكرها لذلك الامتداد الديني الخفي الحاضر في كثير مشاريعها الفكرية والتنموية..
إن الإلحاح على دفن المرجع الديني يعفي الجسد من تكريس أي طاقة منه ومهما كانت يسيرة، لصالح هذا المرجع، في حين أن زمن الحَدَثِ أمسى ضيقا، لا مجال فيه للمغامرة بانتظارات أخرى غير انتظارات هذا الجسد، حيث لا وقت للالتفات أبعد مما تقدمه لك المائدة من أطاييب. لقد أمسى الاهتمام كله منصبا على تكييف الأسئلة، كي تُمركِز اندماجها في العابر دون المقيم، في المتلاشي دون الممانع. لذلك سيكون من الصعب الامتثال إلى كينونة برأسين، إحداهما متجهة للآخرة والثانية تعيش حيرتها وارتباكها هنا. إن الزمن الديني أمسى بالنسبة للحداثة العلمانية وحاشياتها، موضوع شبهة وريبة، لأنه زمن أمسى قادرا وقابلا لهدم منجزاتها! إنه يذكرها بزمن الحجر على مفكريها ومبدعيها، على امتداد تاريخ طويل من الصدام المؤدي أحيانا إلى الحوار، وأيضا من الحوار المؤدي إلى إشعال فتيل أكثر من حرب ومن إبادة. لذلك فإنها تمارس سياسة الأرض المحروقة التي لا يمكن أن تسمح له بالإقامة في أي شبر من مساحتها، كي لا يحتفظ سوى بمشروعية حضور منذور لغيابه العاجل. إن هذا الاجتثاث يتم عبر تحويله إلى موضوع للسخرية للضحك، وعبر تظليم ما يبدو غامضا فيه، وكذلك عبر تضخيم بعض الممارسات اللادينية، من أجل تأليب عشيرته عليه. وباسم الحرية واللائيكية تُقدَّم القيم الأخلاقية كقرابين على مذبح السوق الكبير. كما تدشن المزيد من أسواق التحرر العام. إنها الحرية المطلقة لغيلان التجريب المختبري، والتجريب هنا -الذي لا علاقة له بالتجريب الإبداعي الخلاق – يتمتع بحظوة مطلقة لا تتردد في إخضاع الممكن والمستحيل لخبرتها .إذ سيكون بإمكان الخبير أن يتحول إلى شبه إله يتحكم في ما تطوله كفاياته المعرفية والتقنية من عوالم وكائنات، حيث لا حدود للعبة التجريب التي يكون فيها الجسد هو اللاعب الكبير/العقل/ والمخيلة أيضا، لعبة يُرفع أمامها كل حظر وكل منع .غير أن المأساة الكبرى، تكمن في كون الحداثة العلمانية، ومن خلال تفوقها في تخليص مجتمعاتها من سلطة المقدس ورهبوته، قد أفلحت تماما في تحويل هذه الشعوب إلى مجرد عبيد، يأتمرون بتشريعات سلطات أسطورية ولا مرئية، ذات مرجعية استهلاكية، تكرس غواية الإدمان على امتلاك كل ما هو آيل حتما إلى فنائه، حيث البقاء للعابر وحده دون غيره .
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني

0 التعليقات: