دين ودنيا



                         قرآن كريم

============================================


                          

المرأة ليست ناقصة العقل والدين

المرأة ليست ناقصة العقل والدين
في هذه السلسلة، نناقش أحاديث يعتمدها العلماء التقليديون في احتقار المرأة وإقصائها من الحياة العامة، وهي أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محرّفة بفعل الرواية بالمعنى الخطأ، أو هي أقوال الصحابة والتابعين نسبت إلى الرسول عليه السلام.
وهي (أحاديث) يستغلها الخصوم للطعن في النبوة والسنة والدين، وتنتج كوارث سياسية واجتماعية في بلاد المسلمين.
وقد نجح هذا النوع من (الأحاديث) في الرواج بسبب آثار الجاهلية المحتقرة للأنثى، وتغلغل الإسرائيليات وتلقيها بالقبول من قبل السلف أيام التابعين.
ونفتتح سلسلتنا بحديث محرف يحتج به المحافظون على نقصان عقل ودين المرأة:
روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله وعظ النساء في يوم عيد أضحى أو فطر فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها).
هذا الحديث تلقاه علماؤنا كما يتلقى القرآن، لأنه مروي في الصحيحين "المعصومين" عندهم، ولم يكلفوا أنفسهم جمع طرقه ورواياته لاستكشاف أسباب الخلل، ولا سمحوا لأنفسهم بتأمل متنه وعرضه على القرآن والعقل لاستكشاف ونكارته، بل جعلوه حجة على أن معظم نساء المسلمين سيدخلن النار لأنهن "ناقصات الدين"، متجاهلين أن رجال المسلمين أظلم وأجرم عبر تاريخ الأمة، واتخذوه برهانا على نقصان عقل المرأة وعدم أهليتها للفتوى والقضاء والحكم...
ولم يسلم كبار العلماء القدامى من القدح في دين المرأة وعقلها بناء على هذا الحديث المحرّف، واقرأ ما قاله ابن حزم العقلاني في "الفصل"، والمفسرون كابن كثير في تفسير قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، وشرّاح الحديث في الصحيحين كالنووي وابن حجر، تراهم مجمعين على الباطل، متناسين أن المرأة هي أمهم التي أنجبتهم وتفننت في تربيتهم روحا وعقلا وبدنا، وأنها الزوجة الحافظة لمصالحهم الحريصة على أبنائهم، وأنها الأخت التي يفيء إليها الأخ في المهمات، وأنها البنت التي يستأمنها الأبوان على إخوتها إذا غابا...
هذا، وليس في الرجال بعد الأنبياء عليهم السلام، باستثناء قلة كمولانا علي وولديه السبطين وسيدنا أبي بكر الصديق، من يبلغ إيمان وعقل حوّاء أم البشرية، وآسية زوج فرعون، ومريم أم عيسى، وخديجة زوج المصطفى، وفاطمة أم الشرفا، فلا كلام بعد هذا مع من ينتقص قدر المرأة ويحتقر دينها وعقلها.
وإننا نقسم بأغلظ الأيمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، وإنما قال شيئا آخر مشابها في مناسبة أخرى، فأخطأ الرواة، وحرفوا كلامه وغيروه تبعا لمعتقداتهم الجاهلية عن المرأة، ثم خلطوا كلام النبي عليه السلام بقول للصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
الأدلة على استحالة صحة هذه الرواية المنكرة شرعا وعقلا وخلقا:
الدليل الأول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم صاحب "خلق عظيم"، و"رحمة للعالمين"، و"بالمومنين رؤوف رحيم"، وداع إلى الله "بالحكمة والموعظة الحسنة"، ولم يكن "فظا غليظ القلب"... فيستحيل أن يبشر نساء وبنات أصحابه المؤمنات بأن أكثرهن في النار يوم القيامة، وأن ينعتهم بنقصان العقل والدين في وجوههن، فإن ذلك خلق سيئ وقسوة وعبث يتنزه عنه الدعاة الربانيون فضلا عن الأنبياء والمرسلين.
الدليل الثاني:
لو فرضنا أن أكثر نساء الصحابة وبناتهم من أهل النار، وأنهن ناقصات، فإن إخبارهن بذلك يوم العيد وفي سياق الحث على الصدقة، قلة حياء وجهل بآداب الدعوة إلى الله يستحيل أن يصدرا عن رسول الله الموصي بالقوارير خيرا.
تصوروا أن واعظا أراد أن يحث قوما على عمل صالح، فبدأ نصيحته بقوله: معشر الناس، إنكم ناقصو العقل والدين، لذلك سيكون أكثركم في النار، فتصدقوا وأنفقوا في سبيل الله.
فهل يكون هذا الواعظ أحمق سفيها عند العقلاء أم لا؟
الجواب: إنه كذلك قولا واحدا، ومحال أن يفعل ذلك نبي مرسل.
الدليل الثالث:
إذا كان أكثر نساء الصحابة في النار، فلا فضل للصحبة التي أكرمهن الله بها، ولا قيمة للتربية النبوية، ولا شرف للجيل الأول من المسلمين خير القرون.
وإذا كان غالب نساء القرن الأول في النار، فماذا يكون مصير نساء الأجيال بعدهم؟
إن النبي لا يمكن أن يقول ذلك عن أمته الموعودة بأن تكون أكثر أهل الجنة.
الدليل الرابع:
يستحيل شرعا وعقلا أن يكون كفران العشير واللعن الكثير سببا في استحقاق أكثر المسلمات النار، وأن يكونا عاملا في كون أكثر أهل النار نساء، فجرائم الرجال وموبقاتهم لا تقارن بنكران العشير واللعن الكثير.
فالرجال يقتلون ويظلمون ويسرقون ويغتصبون ويغشون... فالمنطق الشرعي والعقلي يقتضي أن يكون غالب أهل النار رجالا إذا كانت المعاصي هي المعيار.
فهل يعقل أن يغيب ذلك عن الرسول عليه السلام؟
الجواب بالنفي قطعا، فيستحيل صدور هذا الكلام عن نبي الله، والصواب أن النساء الكافرات أكثر من الرجال الكافرين في آخر الزمان، ولذلك سيكون عددهن في النار أكثر من عدد الرجال، فالكفر بالله هو السبب الأعظم، ولا علاقة للمسلمات المؤمنات بعدد أهل النار.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعَهُ مِنْهُ: « إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَفْشُوَ الزِّنَا وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ وَتَبْقَى النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ ». رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وفي رواية صحيحة عند أحمد والحاكم: « لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله! الله! وحتى تمر المرأة بقطعة النعل، فتقول: قد كان لهذه رجل مرة، وحتى يكون الرجل قيم خمسين امرأة، وحتى تمطر السماء ولا تنبت الأرض ».
والعالم اليوم يتجه نحو هذا المصير، فالمواليد من الإناث أكثر مقارنة بالذكور حسب الدراسات والأبحاث المعاصرة.
وسيأتي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الصريح في أن الكفر بالله هو سبب دخول النساء الكثيرات النار.
الدليل الخامس:
وصفت الرواية المرأة بنقصان العقل، وهذا مخالف للقرآن الذي يصرح بأن الإنسان، أي الذكر والأنثى، خلق (في أحسن تقويم)، ويوجه الخطاب التكليفي للجنسين على حد سواء، ويناقض العلم الذي أثبتت أبحاثه أن الرجال والنساء متساوون في الملكة العقلية، وأن التنشئة الاجتماعية أو الخصائص الوراثية هي التي تجعل الإنسان أذكى وأعقل من غيره سواء كان ذكرا أو أنثى، ففي الرجال من هم أعقل من عموم النساء، وفي الإناث من هن أعقل من جمهور الرجال.
والغالب في الرجل أن يكون أذكى من المرأة فيما جعله المجتمع من مهامه كالصناعة والتجارة، والغالب في المرأة أن تكون أذكى من الرجل فيما عده المجتمع من وظائفها كتربية الأبناء.
وفي التصرفات والأفعال، تؤثر العواطف والأمزجة على الرجل فيكون أغبى من المرأة أحيانا وأعقل منها أحيانا، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة.
فالرجل إذا سمع زوجته تخاصم امرأة ينصحها بالصبر والتجاوز فيكون أعقل، لكنه لا يكون كذلك إذا تعرض للاستفزاز من ذكر مثله، بل تكون المرأة أعقل في هذه الحال، فتنهى زوجها عن الخصام والتقاتل وترشده إلى الحلم والتحمل.
ومن أمحل المحال أن ينطق رسول الله بما يناقض القرآن أو العلم، فلا يجوز أن ننسب إليه هذا الكلام التافه.
الدليل السادس:
الحكم على عقل المرأة بالنقصان بناء على أن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، استنباط خطأ لا يتفوه به رسول الله، فالقرآن تعامل مع شهادة المرأة بصور مختلفة حسب نوع الشهادة.
ففي مجال السلف والقرض قال سبحانه: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ، فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء، أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى).
فرّق الله هنا بين الرجل والمرأة بناء على أن النسيان أسرع إلى النساء في مجال المال الذي يكاد يكون خاصا بالرجال، وذلك قوله سبحانه: (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى).
وتؤكد الدراسات والأبحاث والتجارب أن المرأة تنسى سريعا بعض القضايا كالإهانة والإساءة، بينما يسرع النسيان إلى الرجل في مجال الحب والعاطفة، فالمرأة إذا مات زوجها تبقى ذاكرتها شغالة مدة أطول من الرجل الذي تموت زوجه، وربما تمتنع عن الزواج وتفضل الترمل لعدم قدرتها على نسيان زوجها، أما الرجل فينسى أسرته كلها لو ماتت في وقت قصير.
فالنسيان لا يدل على نقصان العقل، وإلا كان الرجل أنقص العقل من المرأة لأنه ينسى قبلها كثيرا من القضايا.
وقال الله تعالى في مجال اللعان: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَن لَعْنَة اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَن غَضبَ اللَّه عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
ونرى هنا المساواة الصريحة بين الرجل والمرأة في الشهادة لأن النسيان لا يتطرق إلى أحدهما في هذا المجال، بل يكون المعيار هو الصدق والكذب، وحيث لا يوجد شهود غير الزوج المدعي والزوجة المنكرة، فهما في الصدق والكذب سواء، لأن عقلهما سواء.
وبناء على هذا المجال، ودون نظر إلى سابقه، يمكنك أن تقول: شهادة الرجل مساوية لشهادة المرأة.
وقال الله سبحانه في الإشهاد على الطلاق أو الرجعة: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ).
قوله تعالى: (ذوي عدل منكم)، يصدق على رجلين وعلى امرأتين وعلى رجل وامرأة، وليس حصرا في رجلين كما يدعي المحافظون، بدليل أن الله قال في مجال الدين: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، فهذه خاصة بالرجال، أما (ذوي عدل منكم) فلا، وإلا كان التنويع في التعبير القرآني عبثيا.
إن (ذوي عدل منكم) تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، حسب العادات والأعراف، وشريعة الإسلام تحترم الأعراف التي تخدم مصالح الناس.
فإذا كان المجتمع لا يرضى إلا شهادة رجلين عدلين في مجال الزواج والطلاق، كانا هما (ذوي عدل)، وإذا تغيرت الظروف والأحوال، واستطاعت المرأة أن تثبت جدارتها كما هو الحال في العصر الحديث، نظرا للقفزة الهائلة التي عرفتها، جاز أن يكون (ذوي عدل) امرأتين أو امرأة ورجل.
ومن هنا نقول: إن تولي المرأة لوظيفة "العدول" أمر تتقبله الشريعة الإسلامية بنص الآية المتقدمة، خلافا لما يعتقده جماهير الفقهاء تقليدا للفقه الموروث عن أجيال كانت المرأة فيها مقصية مقهورة.
ومن أغرب المفارقات أن معظم الدول الإسلامية تقبل تولي المرأة مهمة القضاء، وهي أخطر وأعظم من "العدول"، فمتى يصحو العقل المسلم؟
والخلاصة أن القرآن يساوي بين شهادة المرأة والرجل في مجال الزواج والطلاق والرجعة، وذلك يستلزم تساوي عقليهما.
والنتيجة أن شهادة الرجل الواحد المعروف بالصدق مقدمة على شهادة المرأة الواحدة المشهورة بالصدق في مجال التداين فقط، نظرا لإسراع النسيان في مجال المال إلى المرأة مقارنة بالرجل، وليس لتفاوتهما في القدرات العقلية، وشهادتهما متساويتان فيما لا يلحقه النسيان.
هذا، وشهادة الرجل الواحد الصادق لا تقبل في مجال الزنا، بل ولا شهادة ثلاثة رجال صادقين، وشهادة رجل واحد مردودة في مجال التداين والزواج والطلاق والرجعة، فدل ذلك كله على أن تكثير العدد احتياطي لا علاقة له بقوة العقل والذكاء، فربما يكون عقل رجل واحد أكمل من عقول أربعة أو اثنين، لكن الاحتياط لحقوق الناس يقتضي تقديم شهادة الأكثر على شهادة الواحد ولو كان صديقا.
هذا ما يقرره القرآن بعيدا عن النظرة الفقهية الموروثة النابعة من بقايا الجاهلية والدسائس اليهودية، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولا توجهه الموروثات الجاهلية، ولا خرافات اليهود، ويستحيل أن يغيب عنه ما قرّره الوحي النازل عليه، فنقسم بالله أنه لم يفرق بين عقل الرجل والمرأة، ولم يصفها بالنقصان، وأن ذلك كلام غيره نسب إليه سهوا أو عمدا.
الدليل السابع:
نقصان الدين يعني نقصان الإيمان، والحيض كمال في المرأة كما أن عدم الإنجاب كمال في الرجل، والله سبحانه وتعالى هو الذي حرم على المرأة الصلاة والصيام أثناء الحيض والنفاس، وترك الحرام طاعة توجب الثواب، فتكون المؤمنة مثابة على عدم صلاتها وصومها تنفيذا لأمر الله، ثم تثاب على قضاء الأيام التي أفطرتها.
والحيض والنفاس نوع من المرض، والمريض يؤجر على ما اعتاد فعله من عمل صالح قبل المرض كما أخبر النبي عليه السلام في الصحيح، فتكون الحائض والنفساء مأجورة حتما على الفريضة والنافلة المحظورة عليها.
فهل بعد هذا يمكن أن يصدق مسلم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف النساء بنقصان الدين/الإيمان بسبب الحيض والنفاس؟
الدليل الثامن:
روى الإمام مَالِكٌ في الموطأ 2/260، رواية يحيى الليثي، عَنْ شيخه زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ (...) ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ. فَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فَاذْكُرُوا اللهَ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئاً فِي مَقَامِكَ هذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ. فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُوداً، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَراً قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ»، قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ»، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: «وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ».
ومن طريق مالك يرويه أحمد ح2711 والبخاري ح 1052 وح 5197 ومسلم ح 907 وغيرهم.
دل هذا الحديث الصحيح النظيف سندا ومتنا على عدة أشياء:
الأول: المناسبة التي أخبر فيها الرسول بأن النساء أكثر أهل النار لم تكن مناسبة عيد، فتأكد ما استقبحناه في الدليل الثاني.
الثاني: الخطبة التي أخبر فيها بذلك لم تكن خاصة بالنساء، بل كانت عامة، وكان الرجال أغلب الحاضرين، فتيقنا ما قلناه في الدليل الأول.
الثالث: جملة: (قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: «وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ»)، صريحة في أن النساء الكثيرات في جهنم هنّ الجامعات بين الكفر بالله وبالعشير والإحسان، فثبتت براءة المؤمنات من ذلك الوعيد الشديد، وظهر التحريف الذي لحق بكلام النبي عليه السلام.
وقد حاول بعض المحدثين التشكيك في "الواو" الواردة في جملة: "ويكفرن العشير"، والدالة على أن النسوة المقصودات كافرات بالله قبل أن يكن كافرات بالعشير، وكونها في الموطأ من رواية يحيى الليثي آخر من سمع من الإمام مالك، وموافقتها للمتواتر من دين الله، يدحض محاولة هؤلاء المحدثين غفر الله لهم، فكأنهم يحرصون على تحقير المرأة بأي سبيل.
وجملة: (لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئاً، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْراً قَطُّ») زيادة تفسيرية مدرجة من أحد الرواة حتما، لأنها لم ترد إلا في طريق زيد بن أسلم، ولأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفرن العشير ولم يكثرن اللعن، فلا يقولها رسول الله بحال، ولو أن أمهات المؤمنين فعلن ذلك لسترهن رسول الله، وآفة الأخبار رواتها.
الرابع: عبارة: "وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" لا تحكم على جمهور نساء الصحابة والمسلمين بالنار، خلافا لجملة: "رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ" المنكرة القبيحة، فتأكد تحريف كلام رسول الله.
ولم ينفرد زيد بن أسلم بهذه الرواية الصحيحة، فروى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، وَسَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، وصَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، وأيوب وسعيد بن أبي عروبة عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَظَرْتُ فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءُ، وَنَظَرْتُ فِي النَّارِ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ» (مسند أبي داود الطيالسي ح 2882 ومسند ابن الجعد ص447 ومسند عبد بن حميد ح691 ومسند أحمد ح2086 وح3386 وصحيح البخاري ح3241 وح5198 و6449 وصحيح مسلم ح2737).
ولم ينفرد سيدنا ابن عباس بهذه العبارة الدقيقة الموافقة لما قلناه في الدليل الرابع:
فعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نظرت إلى الجنة فرأيت أكثر أهل الجنة الفقراء، ونظرت في النار فرأيت أكثر أهل النار النساء. (مصنف عبد الرزاق 11/305 ومسند ابن الجعد ح 3049 ومسند الطيالسي ح872 ومسند أحمد ح19852 وح19927 وح19982 وصحيح مسلم ح2738)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْمَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإِذَا أَهْلُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ» (صحيح البخاري 5196 وح6547 وصحيح مسلم ح2736)
فتأكد أن عبارة: "رأيتكن أكثر أهل النار" أو ما شابهها وقاربها محرفة عن العبارة المحفوظة: (أَكْثَر أَهْلِهَا النِّسَاءَ).
الدليل التاسع:
وردت موعظة النبي للنساء يوم العيد من طرق كثيرة صحيحة خالية من تلك العبارات القبيحة المحتقرة للمرأة، فترجح أنها زيادات وتحريفات من الرواة:
رواية سيدنا الخدري:
روى الثقتان داود بن قيس وابن نمير عن الثقة عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ، فَيَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ، ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَرَهُمْ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقُوا»، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. (أخرجه عبد الرزاق ح 5634، وابن أبي شيبة ح9808، وأحمد ح11315، ومسلم ح889، والنسائي ح1576، وابن ماجه ح1288، وابن حبان ح3321).
تقول هذه الرواية: (وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ)، وكن يتصدقن بحليّهنّ كما جاء مبينا في غير هذه الرواية، فدل ذلك على قوة إيمانهن وكمال دينهن، فكيف ينعتهن النبي بالنقصان؟
وشذ زيد بن أسلم فروى الحديث عن عياض عن أبي سعيد الخدري محرّفا مشتملا على تلك القبائح، مزيدا في آخره، فقال في روايته: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: (أيها الناس تصدقوا). فمرّ على النساء فقال: ( يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار ) . فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: ( تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء) . قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل)؟ قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم)؟ قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها). ثم انصرف. فلمَّا صارَ إلى منزلِه، جاءَت زَينبُ امرأةُ ابنِ مسعودٍ تستأذنُ عليه، فقيل: يا رسول الله! هذه زينب. فقال: "أيُّ الزيانبِ؟ "، فقيل: امرأةُ ابنِ مسعودٍ. قال: "نعم، ائذَنوا لها". فأُذِنَ لها، قالت: يا نبيَّ الله! إنكَ أمرتَ اليوم بالصدقةِ، وكان عِندي حُليٌّ لي. فأرَدتُ أن أتصدَّقَ به، فزعَمَ ابن مسعودٍ أنه وولَدَه أحقُّ مَن تصدَّقْتُ بهِ عليهم. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " صدَق ابنُ مسعودٍ، زوجُكِ وولدُكِ أحَقُّ من تصدَّقتِ به عليهم".
وزيد بن أسلم ذكره الحافظ ابن حجر في كتاب "المدلسين"، ولم يصرح بالسماع من عيّاض، فالظاهر أنه أخذ هذه الرواية المحرفة من أحد الضعفاء المغفلين.
وفي تهذيب التهذيب (3/ 397) أنه كان (رجلا صالحا وكان في حفظه شيء).
وقد أظهر لنا عدم حفظه لحديث أبي سعيد الخدري عندما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى)، فلم يضبط مناسبة الحديث، فكيف نستأمنه على كلام رسول الله.
ويظهر لنا أن زيد بن أسلم سمع رواية زينب امرأة ابن مسعود المشتملة على تلك الألفاظ المنكرة، ثم نسي فجعلها عن أبي سعيد، بدليل أنه زاد حوار زينب مع زوجها ثم مع نبي الله، وهي زيادة واردة في روايتها كما يأتي، ولم يتابعه عليها الرواة عن عياض.
وبالجملة، فروايته ضعيفة بسبب تدليسه، ولكونه متكلما في حفظه، ولأنه خالف تلامذة عياض بن عبد الله الثقات، وروايات غير أبي سعيد.
رواية سيدنا ابن عباس:
أخرج عبد الرزاق في مصنفه ح5632، وأحمد ح3064، والبخاري ح98 وح977 و ح4613 وح5541، ومسلم ح884 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: شَهِدْتُ صَلَاةَ الْفِطْرِ مَعَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ، قَالَ: فَنَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ، حَتَّى جَاءَ النِّسَاءَ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا}، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: حِينَ فَرَغَ مِنْهَا «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ؟» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا مِنْهُنَّ: نَعَمْ، يَا نَبِيَّ اللهِ لَا يُدْرَى حِينَئِذٍ مَنْ هِيَ، قَالَ: «فَتَصَدَّقْنَ»، فَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ فِدًى لَكُنَّ أَبِي وَأُمِّي، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ، وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ. قُلْنَا لَهُ: مَا الْفَتَحُ؟ قَالَ: «خَوَاتِيمُ مِنْ عِظَامٍ كُنَّ يُلْبَسْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ»
في رواية عند البخاري: فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ بِأَيْدِيهِنَّ يَقْذِفْنَهُ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَبِلاَلٌ إِلَى بَيْتِهِ»
وبين ابن عباس في بعض الطرق أن النساء لم يتمكن من سماع خطبة النبي أمام الرجال، لذلك خصّهن بالموعظة.
وعبارة: «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكِ؟»، أي على الإيمان الصحيح، تتنافى كليا مع جملة: "إنكن أكثر أهل النار"، ومع الوصف بالنقصان.
رواية سيدنا جابر:
أخرج البخاري ح935 ومسلم ح885 عن ابْن جُرَيْجٍ قال: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ، وَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ بِلَالٍ، وَبِلَالٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ، يُلْقِينَ النِّسَاءُ صَدَقَةً» قُلْتُ لِعَطَاءٍ: زَكَاةَ يَوْمِ الْفِطْرِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ صَدَقَة يَتَصَدَّقْنَ بِهَا حِينَئِذٍ، تُلْقِي الْمَرْأَةُ فَتَخَهَا، وَيُلْقِينَ وَيُلْقِينَ»، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَحَقًّا عَلَى الْإِمَامِ الْآنَ أَنْ يَأْتِيَ النِّسَاءَ حِينَ يَفْرُغُ فَيُذَكِّرَهُنَّ؟ قَالَ: «إِي، لَعَمْرِي إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا لَهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟»
وشذّ عبد الملك العرزمي وخالف ابن جريج والروايات الصحيحة، فحرّف الحديث، فأخرج أحمد ح14420 ومسلم ح 886 من طريق عَبْد الْمَلِكِ بْن أَبِي سُلَيْمَانَ العرزمي، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ»، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ»، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ.
وابن جريج أحفظ وأضبط الرواة عن عطاء بن أبي رباح، لا يقدم عليه سواه، وفي "العلل" (3/254) لابن حنبل: حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر: "انكسفت الشمس" خالفه ابن جريج... أقضي بابن جريج على عبد الملك في حديث عطاء، وقال أبي مرة أخرى وذكر عطاء فقال: أثبت الناس في عطاء ابن جريج وعمرو بن دينار. هـ
وعبد الملك العرزمي ثقة يخطئ كما قال أحمد وأبو داود وابن حبان، وتركه شعبة لخطأ فاحش في حديث الشفعة، الذي قال فيه الإمام أحمد: حديثه في الشفعة منكر، وهو ثقة.
وفي تقريب التهذيب لابن حجر: "صدوق له أوهام".
فإذا خالفت رواية العرزمي روايات غيره من الثقات، كانت روايته ضعيفة حتما، ومما يدل على أنه كان يتصرف في المتون ويحرفها سهوا وغلطا، تفرده بعبارة: «تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ»، فهي أنكر وأبشع من عبارة: "إنكن أكثر أهل النار"، فحطب جهنم لا تقال إلا للكافرين والمشركين.
وكما حصل لزيد بن أسلم، فإن عبد الملك العرزمي روى حديث الكسوف عن عطاء عن جابر عند مسلم في الصحيح برقم 2140، وسمع كلام ابن مسعود، فاختلط عليه الأمر، وخرج علينا بتلك الرواية الشاذة.
رواية سيدتنا زينب:
روى الطيالسي ح1758 والبخاري ح1466 ومسلم ح1000 والترمذي ح636 وابن خزيمة ح2463 وابن حبان 10/58 وغيرهم من طريق شعبة وحفص بن غياث وأبي الأحوص وابن نمير وأبي معاوية الضرير محمد بن خازم قالوا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كُنْتُ فِي المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حجرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى البَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي، وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».
هذه الرواية خالية من الزيادات المنكرة، لكن أَبا مُعَاوِيَةَ ناقض نفسه مرة، وخالف أقرانه في السند والمتن فقال: حدثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَمْرٍو بن الْحَارِثِ بْنِ الْمُصْطَلِقِ، عَنِ ابْنِ أَخِي زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَثَّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنَّكُنَّ مِنْ أَكْثَرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الحديث. (مسند أحمد ح27048 ومسند ابن راهويه ح 2405 وسنن الترمذي ح635 والمستدرك4/646).
فزاد أبو معاوية في السند "ابن أخي زينب" الذي لم يثبت أنه من شيوخ الأعمش، وزاد في المتن: "فَإِنَّكُنَّ مِنْ أَكْثَرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وهي زيادات منكرة سببها أوهام أبي معاوية الذي لم يكن يحفظ مروياته جيدا، فانظر ترجمته من "تهذيب" ابن حجر تجد الإمام أحمد يقول عنه: أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها حفظا جيدا. وقال أبو داود: قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام ابن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: هو مضطرب في حديث الأعمش وغيره، بدليل اضطرابه في حديثه موضوع البحث.
وقال ابن معين: أبو معاوية أثبت في الأعمش من جرير، وروى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر مناكير.
قلت: كونه أثبت في الأعمش من غيره خرافة ودعوى منقوضة بحديثه هذا على الأقل، ومن روى المناكير عن عبيد الله لا يعجزه أن يرويها عن الأعمش وغيره.
ويزيدها نقضا قول العجلي في ثقاته (2/236): أبو معاوية الضرير الحماني كوفي ثقة، وكان يرى الإرجاء وكان لين القول، وسمع من الأعمش ألفي حديث، فمرض مرضة فنسي منها ستمائة حديث. هـ
ثم وجدنا أبا معاوية يروي الزيادة المنكرة عن الأعمش من حديث ابن مسعود، فتأكد أنه حرّف حديث امرأته زينب بسبب اضطرابه في حديث الأعمش بعد النسيان الذي أصابه، فقال أحمد في مسنده برقم4037: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ ذَرٍّ عَنْ وَائِلِ بْنِ مَهَانَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، قَالَ: فَقَامَتِ امْرَأَةٌ لَيْسَتْ مِنْ عِلْيَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَتْ: بِمَ نَحْنُ أَكْثَرُ أَهْلِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: "إِنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ".
وسيأتي الكلام عن رواية ابن مسعود وما فيها من عوار.
واضطرب أبو معاوية في السند بين عمرو بن الحارث وزينب الثقفية، فقال مرة: عمرو بن الحارث عن زينب، وقال مرة: عمرو بن الحارث ابن أخي زينب، وقال في ثالثة: عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب.
وعمرو بن الحارث ليس ابن أخي زينب عند المحققين، ولم يذكر في شيوخه ابن أخي زينب إلا أبو معاوية الضرير، وتفرد بالوجهين الثاني والثالث دون أصحاب الأعمش، فهو مخطئ متوهم جزما.
أما الحافظ ابن حجر الحريص على التلفيق بأي طريقة، فإنه اجتهد في جعل عمرو بن الحارث الخزاعي ابنا لأخي زينب الثقفيين، وأن يختلق لها ابن أخ آخر غير عمرو الخزاعي يحمل نفس اسمه ونسبه، ويبدو أنه لم يقف على ما قاله ابن القطان في الموضوع.
والخلاصة أن رواية الضرير لحديث زينب من جملة مناكيره، ومع ذلك صححها المحدثون المغترون بإمامته المقصرون في دراسة هذا الحديث متنا وسندا.
وإذا أكدت لنا القرائن والأدلة قصورهم وتواردهم على التقليد، لم نرفع لكلامهم رأسا، وقد وجدنا الإمام الترمذي يحكم على أبي معاوية بالوهم هنا، فقال عن رواية شعبة: وهذا أصح من حديث أبي معاوية، وأبو معاوية وهم في حديثه فقال: عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب، والصحيح إنما هو عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب. هـ
أما الحافظ المحقق ابن القطان الفاسي، فإنه ضعف حديث زينب في "بيان الوهم والإيهام" 2/454 بالانقطاع بين عمرو بن الحارث وزينب، ونحن نضم صوتنا إليه، ونضيف أن الأعمش كان رحمه الله مشهورا بالتدليس عن الضعفاء، ولم يصرح بسماع عمرو من زينب في هذا الحديث، فهو منقطع، والساقط بين عمرو وزينب أحد الضعفاء المجاهيل.
فلسنا مبتدعين ولا مغترين، والخلاصة أن رواية زينب الخالية من الألفاظ المنكرة حسنة بشواهدها، أما المشتملة على النكارات، فواهية جدا من جهة المتن ومن ناحية السند.
رواية سيدتنا أم سلمة:
قَالَت رضي الله عنها: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُجْزِينِي مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى زَوْجِي وَهُوَ فَقِيرٌ، وَبَنِي أَخٍ لِي أَيْتَامٍ، وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَكَانَتْ صَنَاعَ الْيَدَيْنِ. (سنن ابن ماجه ح1835 ومسند أبي يعلى ح6899، وصححه الحافظ البوصيري).
الدليل العاشر:
كل الروايات المشتملة على تبشير غالب المؤمنات بالنار، والمقررة لنقصان دين وعقل المرأة، ضعيفة من جهة السند، يتفرد بكل واحدة منها راو ضعيف، أو يعاني سندها من الانقطاع.
هذا ما تبين من الروايات السابقة، ويتأكد من اللاحقة، وهو وحده يكفي للتكذيب بالقصة من أساسها، ولا مجال للقول بأنها تتقوى ببعضها، لأنه يشترط في التقوي بكثرة الطرق أن يكون المتن موافقا للقرآن والسنة الصحيحة والعلم، وأن لا توجد روايات صحيحة خالية من مواضع النكارة، وهذان الشرطان منتفيان هنا، فلا مجال للتحسين بالشواهد.
وهناك روايات أخرى تشتمل على النكارة، ضعيفة الأسانيد، نرجئها لمقال قادم بإذن الله، ونقتصر على أقواها:
روى أحمد ح5343، ومسلم ح250 من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاِسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: « تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ ». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: « أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ ».
قلت: تفرد عبد الله بن دينار بهذه الرواية المنكرة عن سيدنا ابن عمر، وقد ضعفها الإمام الدارقطني في العلل (13/194) مرجحا أنها من مراسيل الحسن البصري رحمه الله، ومراسيله شبه الريح عند النقاد، فقال الدارقطني: يرويه يزيد بن الهاد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عُمَر... ورواه عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن الحسن مرسلاً، والمرسل أشبه. هـ
مفاد كلام الدارقطني أن ابن دينار اضطرب في سند الرواية، فأسندها عن ابن عمر مرة، وعن الحسن البصري كرة، ومثله لا يحتمل منه هذا الاضطراب، فإنه متكلم في حفظه، فقال سفيان بن عيينة: لم يكن بذاك. وقال أحمد في "بحر الدم" ص85: ثقة، إلا في حديث واحد يرويه عن ابن عمر: الولاء لا يباع.
قلت: أنكر عليه المحدثون حديث بيع الولاء، ولم ينتبهوا لنكارة حديثه المحقر للنساء.
وأورده العقيلي في الضعفاء2/247 فقال: في رواية المشايخ عنه اضطراب.
ودافع عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" بما لا يقنع، وابن عيينة أعرف منه لأنه تلميذه، وكلامه يعني أنه لم يكن يضبط مروياته.
الخلاصة: رواية ابن دينار ضعيفة لاضطرابها، ومخالفتها رواية الثقات سندا ومتنا.
الدليل الحادي عشر:
روى الأعمش وغيره عن ذر بن عبد الله الهمداني عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن" فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة ليست من علية النساء فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ثم قال عبد الله: ما وجد من ناقص العقل والدين أغلب للرجال ذوي الرأي على أمورهم من النساء، قال: فقيل: يا أبا عبد الرحمن، وما نقصان عقلها ودينها؟ قال: أما نقصان عقلها فجعل الله شهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث كذا يوما لا تصلي لله سجدة.
أخرجه الدارمي ح1047، والطيالسي ح384، وابن أبي شيبة 6/168، وأحمد ح3569 وح4122 و4152، والنسائي في الكبرى ح 9212، وابن حبان ح 3323، والحاكم2/207 و4/645، وغيرهم.
وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي، وقال الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا سند محتمل للتحسين. وضعفه الألباني بوائل بن مهانة.
قلت: رجاله كلهم ثقات، وابن مهانة مستور لم يرو عنه إلا ذر الهمداني، وذكره العجلي وابن حبان في الثقات، ولم يجرحه أحد، وفي تقريب ابن حجر: "مقبول".
قلت: القول ما قاله الألباني، لكن هذه الرواية تفيدنا أن وصف النساء بالنقصان هو رأي لابن مسعود رضي الله عنه، نسبه الرواة إلى رسول الله عمدا أو سهوا.
وإذا صح أنه كلامه، فهو مخطئ فيما قال نظرا لما تقدم تفصيله، والصحابة رضي الله عنهم لم يستطيعوا التخلص من الأعراف والثقافة الشعبية بالكلية، فلا يبعد أن ينطق أحدهم بمثل ذلك الكلام في حق النساء.
مناقشة شبهة مفترضة:
قال تعالى على لسان امرأة عمران أم مريم عليهم السلام: (وليس الذكر كالأنثى) ويحتج علماؤنا بالآية على تفضيل عقل الذكر ودينه، ولا علاقة لها بما قالوا، ولا يفهم معناها الحق إلا بالرجوع إلى السياق:
قال تعالى في سورة "آل عمران": (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي، إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفلهَا زَكَرِيَّا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً، قَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء، فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى).
اطرح التفاسير المستندة إلى الإسرائيليات، وتأمل كلام الله العربي المبين، يظهر لك الآتي:
حملت امرأة عمران، فنذرت أن تهب مولودها لخدمة المعبد/المحراب ببيت المقدس ظانة أنه سيكون ذكرا، لكن المولود كان أنثى، والشريعة اليهودية لا تقبل ترهّب الإناث ولزومهن المعبد، فاستشعرت الحرج والحياء من الله فقالت: (وليس الذكر كالأنثى)، أي أنهما لا يستويان في الوظائف والمهام الدينية حسب شريعة بني إسرائيل، لكن الله تعالى أراد إعداد اليهود لاستقبال دعوة سيدنا عيسى، وهي دعوة ناسخة لبعض أحكام شريعة سيدنا موسى، ومنها إقصاء الأنثى من المناصب الدينية، فشاءت حكمته سبحانه أن تلد المرأة الناذرة أنثى، ويتقبل سبحانه أن تعتكف في المعبد رغم أنوثتها، ويوحي إلى نبيه زكريا عليه السلام أن يقنع أحبار اليهود بمشروعية اعتكاف مريم عليها السلام في المعبد، على أن يتكفل بها هو من حيث حاجاتها كالطعام والشراب، فوافقوا وجعلوا لها جناحا خاصا.
فقصة سيدتنا مريم ناقضة لثقافة التفرقة بين الذكر والأنثى لو تعقل علماؤنا رحمهم الله، لكنهم بتروا قول الأم من سياقه، كما يفعل من يقتطع قوله تعالى: (ويل للمصلين) من سياقه.
وإن موقف اليهود قبل حدوث قصة السيدة مريم يشبه موقف كثير من الفقهاء الذين يمنعون إماء الله من بيوت الله، ويستنكرون أن تتولى المرأة المناصب الدينية كالوعظ والإرشاد في المساجد، ولعلها مواقف موروثة عنهم بفعل مدسوساتهم.
النتيجة العامة:
إن رسول الله بريء من كل رواية تبشر أكثرية نساء المسلمين بالنار، أو تحكم على دين المرأة وعقلها بالنقصان، فكل الروايات المشتملة على ذلك مهزوزة الأسانيد منكرة المتون، والثابت الصحيح أنه أخبر أن أكثر أهل النار نساء المشركين، فحرف الرواة كلامه وزادوا عليه قول ابن مسعود، فخرجوا علينا بتلك الرواية المستهجنة شرعا وعقلا وخلقا.
وفي المقال المقبل بإذن رب الأرض والسماء، سنثبت أن أكثر أهل الجنة هنّ النساء، أخبر بذلك إمام الأنبياء، وبورك عيدكم أيها الأحباء.
-خريج دار الحديث الحسنية
                       

الغناء والموسيقى: حلال في مطلق الأوقات، مستحبان في الأفراح والمناسبات

الغناء والموسيقى: حلال في مطلق الأوقات، مستحبان في الأفراح والمناسبات
إن الغناء والموسيقى من القضايا التي عني بها الفقهاء قديما وحديثا، وتباينت فيها الأنظار بين مبيح ومحرم وكاره، وألفت حولها المصنفات المطولة، والرسائل المختصرة.
فألف في ذلك، ابن قتيبة الدينوري، وأبو منصور البغدادي، وابن طاهر المقدسي، والغزالي، والأدفوي، وابن دقيق العيد... رحمهم الله، وكلهم من المبيحين.
وصنف في التحريم أو الكراهة: أبو الطيب الطبري، والطرطوشي، وابن الجوزي، والقرطبي المحدث، وابن القيم... رحمهم الله.
وفي العصر الحديث ظهرت مؤلفات كثيرة في الموضوع، فكتب العلامة القرضاوي حفظه الله من المبيحين، والعلامة الألباني رحمه الله من المحرمين.
ورغم كثرة المصنفات في الموضوع، فإنها توقع قارئها في الحيرة والاضطراب، وتترك أسئلة من غير جواب، وقد لاحظت عليها هذه الملاحظات:
أولا: يستند كل فريق إلى أدلة ضعيفة أو بعيدة عن موضوع الغناء، فترى الأولين يستدلون بنصوص قرآنية وحديثية لا علاقة لها بالقضية، وتلحظ الطرف الآخر يحتج بآيات وأحاديث لا مناسبة بينها وبين المسألة، والظاهر أن التطويل والحشو يدفع الفريقين إلى ذلك، أو هو العجز عن إقامة الأدلة، أو شيء آخر.
ثانيا: رأيت أكثر المبيحين يحتجون على الجواز المطلق، بأحاديث مقيدة بالعرس ونحوه، وبالمقابل يستند المانعون إلى نصوص خاصة بالغناء الفاحش أو غناء المشركين، فيعممون الحكم.
ثالثا: يجتهد كل فريق في عرض أدلة مذهبه، ويتعمد الإعراض عن مناقشة حجج مخالفه، وذلك قصور وإن كان له ما يبرره، وفيه إيهام بعدم وجود مستند لدى المخالف.
رابعا: إذا تعرض أحد الفريقين لحجج المعارضين، فإنه يقتصر على ذكر ما هو ضعيف، أو على ما يسهل رده بالتقييد والتخصيص ونحوهما، وذلك تدليس وتغرير!
خلاصات حول موضوع الغناء والموسيقى:
*بعد رحلة بحثية في مسألة الغناء والموسيقى، توصل العبد الفقير إلى جملة من النتائج، قلبت موقفه المتشدد من الغناء والموسيقى، وكانت كالآتي:
أولا: الغناء الطيب المقترن بآلات الموسيقى كالدف والطبل، سنة في الأعراس والأعياد والختان وقدوم الغائب، مباح في سائر الأيام والمناسبات.
ثانيا: الدف والطبل والعود والزمارة أي الناي واليراع والشبابة، آلات ثبت جوازها بأدلة خاصة، وغيرها من الآلات لم يرد بشأنه نص صحيح بالحظر أو الإباحة، فالجواز هو الأرجح، قياسا على الآلات المباحة صراحة، ولأن الأصل في غير الأمور التوقيفية هو الإباحة، وبدليل بعض الأحاديث العامة.
ثالثا: إن احتراف الغناء الهادف الخالي من المنكرات، ثم التكسب به أمر مشروع، فقد اشتهر كثير من النساء والرجال بذلك في عصر السلف الصالح، ولم يصح عن أحد منهم أي إنكار، وبعضهم كان معروفا به في أيام النبوة، كأرنب وسيرين.
رابعا: الغناء مباح للرجال والنساء على السواء، ولا يشترط فيه صغر السن، فإنه لم يثبت دليل واحد يخص قوما بالإباحة دون غيرهم، بل توفرت أحاديث وآثار صحيحة، تصرح بجوازه للجميع.
خامسا: إن أدلة المحرمين لا تنفع شيئا، فهي قسمان: قسم ضعيف أو موضوع، وقسم صحيح لكنه بعيد عن محل النزاع لأنه ينهى عن الغناء الفاحش الماجن أو الغناء الشركي.
والواقع أن أدلة الإباحة غالبها مخرج في الكتب الصحاح، أما أدلة التحريم فسائرها من المصنفات المتساهلة في الأسانيد.
سادسا: إن الغناء في المناسبات وغيرها، كان محل قبول في أيام الصحابة وكبار التابعين، فإنه لم يثبت عن أحد منهم ما يدل على منعه، بل وصلتنا عنهم أخبار صحيحة تقطع بالإباحة.
وإنما ظهر الخلاف حول الغناء في عصر أتباع التابعين، وكان ذلك نتيجة الجهل بأدلة الجواز، أو سدا للذرائع، فإن بعض الأئمة، رأوا شيوع غناء المجان، وتكاثر المخنثين، فأفتوا بحظر الغناء وآلاته حماية للمجتمع من الانحلال، حسب اجتهادهم القاصر.
سابعا: جواز الغناء بالدف في الأفراح، مذهب جماهير الفقهاء من جميع المذاهب، وإنما الخلاف القوي في غير مناسبات السرور، وهذه مسألة لا ينتبه لها الذين يتصدون للتحريم، فتراهم ينسبون إلى الأئمة التحريم المطلق، وهم مدلسون أو كاذبون أو جاهلون مقلدون.
ثامنا: لا يصح عن أحد من الأئمة الأربعة نص بتحريم الغناء الخالي من الكلام الفاحش، ولم يثبت عن أحد منهم تحريم شيء من آلات الموسيقى، إلا الطنبور وهو العود، فمحرم عند الإمام أحمد وحده.
فالأئمة الأربعة بريئون من التحريم الذي ينسبه إليهم بعض المؤلفين والخطباء!
تاسعا: إباحة الغناء الخالي من المجون والشرك، وجواز آلات الموسيقى جميعها، اختيار عشرات الأئمة المجتهدين من كل المذاهب، وهو اختيار تعضده نصوص الشريعة وقواعدها.
عاشرا: جواز الإنشاد من غير استعمال آلات الطرب، محل اتفاق الأئمة، وإنما شذ بعض المتأخرين فقيدوا الإباحة ببعض المناسبات، ونصوص الشريعة ترد عليهم بقوة.
وأخيرا: كل الفنون الغنائية مباحة، ما لم تقترن بمحرم كالمجون والعري، أو تتضمن دعوة للشرك والكفر والفجور، فالتحريم أو الكراهة يكونان لذلك، لا للغناء في حد ذاته.
إن الغناء الديني والعسكري والسياسي والاجتماعي والوطني والعاطفي العفيف...، كل ذلك مباح في الشريعة السمحة.
والأنواع الغنائية كالطرب الأندلسي، والراي، والهيب هوب، والراب، وما لم نذكر، كلها فنون مباحة ما كان كلامها خاليا من الشرك والدعوة للفجور، ولو خلت أغنية "اعطيني صاكي" من بعض الكلمات المستفزة للحياء، وأدتها المغنية باحتشام، لما كان فيها حرج شرعا، والجهل المكعب بروح الشريعة يدفع أصحابه للهيجان، فيعلنون النفير العام لأغنية تافهة شكلا ومضمونا.
والإنسان حر في ذوقه، فمن كانت موسيقى الراب أو الهيب هوب مزعجة بالنسبة إليه، فمن حقه أن يستقبحها من غير القطع بتحريمها أو كراهتها، لأن الشريعة لم توضع على حسب الأمزجة الشخصية.
ومن كان كثيف الطبع، لا يطرب لأي لون موسيقي، فله أن ينفر من الغناء، ولا يفتئت التحريم على رب الأرض والسماء.
حب الغناء فطرة ربانية في عمق النفس الإنسانية:
لقد فطر الله الإنسان على التعبير عن فرحه وسروره، وأباح له ذلك ما لم يلجأ إلى الوسائل المخلة بالدين والخلق.
وغرز الحق سبحانه في فطرة البشر الترويح عن نفوسهم، ولم يأمرهم أن يظلوا في جد وعبادة مستمرين.
ويعتبر الغناء من أقدم وسائل بني آدم للتعبير عن أفراحهم، والتخفيف من أتعابهم.
ولما جاء دين الحق، وكان من فطرة الإنسان ما تقدم، فإنه لم يصادمها، بل أكدها وأقرها، لذلك نراه يبيح للمسلمين أن يطربوا ويغنوا في مناسبات الأفراح، بل إنه يعتبر ذلك في العرس والعيد من المستحبات والقربات!
وعندما نتحدث عن الغناء هنا، فنحن نقصد الغناء البعيد عن التغني بالفحشاء، والتحريض على الفجور والموبقات.
فأغاني الشرك والمجون والفسق، محرمة قولا واحدا.
ومحل الخلاف هو الغناء الملتزم: كالأغاني الدينية، والوطنية، والسياسية، والعسكرية.
هذا النوع من الغناء هو محل مناقشة هذا المقال، وهو الذي نرفض تحريمه دفاعا عن الشريعة الوسطية، ورحمة بعموم الأمة المحمدية.
شهادات سلفية تقطع الطريق على أولي النفوس المرضية:
نحن مسبوقون إلى ما نقرره في الموضوع بأئمة الدين الكبار، فلا نخشى صراخ الأصوات المتعالية بالشتم والإنكار، بل نشفق على أصحابها من سخط العزيز الجبار، فإنه يغضب من تشديد وتشويه دين المصطفى المختار.
ونضع بين يدي المقال أقوال سلفنا تعليما وتحذيرا، واستفزازا لروح البحث والتحقيق، فمصيبتنا أننا لا نقرأ تراثنا، وإذا قرأنا انتقينا، وإذا عرفنا كتمنا، وإذا كتمنا للحق ضيعنا، وإذا ضيعنا الحق ضعنا فتضعضعنا:
ــــ التابعي الجليل أبو يوسف يعقوب بن دينار الماجشون، وهو إمام محدث ثقة من رجال الستة، سمع ابن عمر رضي الله عنهما، وكان من جلساء الخليفة عمر بن عبد العزيز، يقول الحافظ الذهبي في ترجمته من سير النبلاء5/370: قال مصعب بن عبد الله: كان يعلم الغناء، ويتخذ القيان، ظاهر أمره، وكان يجالس عروة ويجالس عمر بن عبد العزيز بالمدينة، ثم وفد عليه فقال: إنا تركناك حين تركنا لبس الخز. ثم قال الذهبي في ترجمة الإمام أبي الزناد5/445: قال أحمد بن أبي خيثمة: عن مصعب بن عبد الله قال: كان أبو الزناد فقيه أهل المدينة... وكان أبو الزناد معاديا لربيعة الرأي، وكانا فقيهي البلد في زمانهما، وكان الماجشون يعقوب ابن أبي سلمة يعين ربيعة على أبي الزناد، وكان الماجشون أول من علم الغناء من أهل المروءة بالمدينة، قال أبو الزناد... مالي وللماجشون! والله ما كسرت له كبرا ولا بربطا. هـ
ـــ وهذا الإمام إبراهيم بن سعد الجوهري الزهري، الحافظ الإمام الثقة الحجة، أخرج له الجماعة، وهو من شيوخ الإمام الشافعي، قال عنه الحافظ الذهبي في ترجمته من السير8/304: كان ثقة صادقا صاحب حديث... وكان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة.
وقال الحافظ الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/563: كان تعاطيه الغناء وسماعه، أمرا مشهورا عنه، لم يختلف النقل فيه، وحكاه عنه الفقهاء في كتبهم، ونصبوا الخلاف معه، وحكاه عنه الشافعي في كتابه، وأجمع أهل الأخبار على نسبة ذلك إليه، وكان لا يسمع الطلبة حتى يسمعهم الغناء نشيدا ونشيطا. اهـ
قلت: قال سعيد بن كثير بن عفير: قدم إبراهيم بن سعد الزهري العراق سنة 184، فأكرمه الرشيد وأظهر بره، وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله، وأتاه بعض أصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري، فسمعه يتغنى، فقال: لقد كنت حريصا على أن أسمع منك، فأما الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا! فقال: إذن، فلا أفقد إلا شخصك! علي وعلي إن حدثت ببغداد ما أقمت حديثا حتى أغني قبله! وشاعت هذه عنه ببغداد، فبلغت الرشيد، فدعا به، فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة الحلي، فدعا بعود! فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا، ولكن عود الطرب، فتبسم، ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعله بلغك يا أمير المومنين حديث السفيه الذي آذاني بالأمس، وألجأني إلى أن حلفت! قال: نعم، ودعا الرشيد بعود فغناه:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا قل الثواء إن كان الرحيل غدا
فقال الرشيد: من كان من فقهائكم يكره السماع؟ قال: من ربطه الله! قال: هل بلغك عن مالك بن أنس في هذا شيء؟ قال: لا والله! إلا أن أبي أخبرني أنهم اجتمعوا في مدعاة، كانت في بني يربوع وهم يومئذ جلة، ومالك أقلهم من فقهه وقدره، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنون ويلعبون، ومع مالك دف مربع وهو يغنيهم:
سليمى أجمعت بينا فأين لقاؤها أينا
وقد قالت لأتـراب لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طـاب لنا العيش تعالينا
فضحك الرشيد! ووصله بمال عظيم.
روى هذه القصة الخطيب في تاريخ بغداد6/84، وابن عساكر في تاريخ دمشق7/9، وسندها حسن، فيه عبيد الله بن سعيد بن عفير، تكلم فيه بعضهم بما لا يوجب الجرح، وهذه قصة وتاريخ وليست حديثا، فلا يجوز التشدد والتعنت في إسنادها.
وقد رواها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني 2/238 عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي بإسناد صحيح.
وفي الإتحاف للزبيدي7/563 بعدما أورد رواية الخطيب: وقد ساقها ابن قتيبة بأتم من هذا السياق [وذكرها]، وكذلك ساقها الفضل بن سلمة في كتاب "ملاهي العرب". هـ
فالقصة ثابتة صحيحة رغم أنف المتنطعين.
وقال صاحب العقد الفريد 6/11: قال إسحاق: وحدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: قال لي أبو يوسف القاضي: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم من شريف ولا دنيء يتحاشى عنها! فغضبت وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق! ما أوضح جهلكم، وأبعد من السداد رأيكم، متى رأيت أحدا سمع الغناء، فظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر [يقصد النبيذ المباح عند الأحناف]؟ فيترك أحدهم صلاته... فأين هذا من هذا؟ من اختار شعرا جيدا، ثم اختار له جرما حسنا، فردده عليه، فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم، وأعطى الرغائب! فقال أبو يوسف: قطعتني، ولم يحر جوابا!
قلت: إسحاق هو الموصلي المغني الفقيه المحدث، له مؤلفات عدة في الغناء والموسيقى، وابن عبد ربه ينقل منها مباشرة، فالقصة صحيحة، ونستنتج منها وسابقتها ما يلي:
أولا: تؤكدان ما تواتر عن إبراهيم بن سعد من تعاطي الغناء وإباحته.
ثانيا: تثبتان أن إباحة الغناء وآلاته هو مذهب أهل المدينة.
ثالثا: تعضدان إباحة العود والمعازف عند السلف الأول، فإن أبا إبراهيم أدرك جماعة من الصحابة، وهذا يعني أن جماعة من التابعين كانوا حاضرين المدعاة.
رابعا: ترد القصة الأولى على من ينسب إلى الإمام مالك تحريم الغناء مطلقا.
خامسا: تبين القصة الثانية أن كثيرا من الفقهاء الكبار يمنعون أشياء بلا حجة، فأبو يوسف لم يكن لديه دليل على الإنكار، ولذلك تراجع عنه رحمه الله.
ـــ والإمام الكبير أبو محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، الحافظ المجتهد الأصولي المتفنن في العلوم النقلية والعقلية، وأحد أركان العلم بالأندلس، كان يجيد الغناء والعزف على العود، وقد دافع عن جواز الغناء وآلاته، وضعف كل حديث يحتج به المحرمون بما في ذلك حديث المعازف المعلق في صحيح البخاري، وتجد كلامه الصارم في الجزء التاسع من موسوعته "المحلى"، وفي تأليفه المستقل بعنوان: رسالة في الغناء الملهي، أمباح هو أم محظور؟
وفي ختام هذه الرسالة: قال أبو بكر عبد الباقي بن بريال الحجاري [الحجاري محدث إمام توفي سنة502] رضي الله عنه: ولقد أخبرني بعض كبار أهل زمانه أنه قال: أخذت النسخة التي فيها الأحاديث الواردة في ذم الغناء، والمنع من بيع المغنيات، وما ذكر فيها أبو محمد [ابن حزم] رضي الله عنه، ونهضت بها إلى الإمام الفقيه أبي عمر بن عبد البر، ووقفته عليها أياما، ورغبته في أن يتأملها، فأقامت النسخة عنده اياما، ثم نهضت إليه فقلت: ما صنعت في النسخة؟ فقال: وجدتها فلم أجد ما أزيد فيها وأنقص!
قلت: هذا إقرار من الإمام الحافظ الفقيه المتفنن ابن عبد البر بصواب رأي ابن حزم، وكان متأثرا به في كثير من المسائل، خالف فيها أهل مذهبه، ومنها مسألة الغناء.
ـــ وقال الإمام أبو بكر ابن العربي المعافري المالكي[ت543] في "أحكام القرآن"3/1035: أما الغناء، فإنه من اللهو المهيج للقلوب عند أكثر العلماء، منهم مالك بن أنس، وليس في القرآن ولا في السنة دليل على تحريمه، أما إن في الحديث الصحيح دليلا على إباحته، [ثم ذكر حديث عائشة وقال]، وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يوم عيد يدل على كراهية دوامه ورخصته في الأسباب كالعيد والعرس وقدوم الغائب، ونحو ذلك من المجتمعات التي تؤلف بين المفترقين والمفترقات عادة، وكل حديث يروى في التحريم أو آية تتلى فيه، فإنه باطل سندا، باطل معتقدا، خبرا وتأويلا.
ثم قال في 3/1494: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه، لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو، وأما طبل اللهو فهو كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح، يجوز استعمالها فيه، لما يحسن من الكلام ويسلم من الرفث. وأما سماع القينات، فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته، إذ ليس شيء منها عليه حراما، لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها، ولم يجز الدف في العرس لعينه، وإنما جاز لأنه يشهره، فكل ما أشهره جاز. هـ
ندع أقوال الأئمة، وندخل في صحيح الأدلة عن نبي الأمة، وأصحابه أولي الفهم والحكمة، فتريثوا رزقتم الصبر والرحمة.
تنبيه وإيقاظ:
أيها المتلذذون بمناجاة الله وتلاوة كتابه، استمروا على ذلك، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله على عموم الأمة، فأحكام الشريعة وضعت لهم لا لكم، واشتغلوا بالدعاء لعامة المسلمين بالرحمة والهداية.
وأنتم أيها الشباب، استمتعوا بطيبات ما أباح الله لكم، شنفوا أسماعكم بالهادف والنظيف من الغناء والموسيقى، لكن لا تنسوا كلام ربكم وتهجروه بالكلية، فالموت حق والدنيا فانية.
إن الجنة درجات ومراتب، إذا حاز السابقون المتغنون بالقرآن أعلاها، فاز المسلمون الملوثون بالخطيئات بأدناها، وذي حقيقة قرآنية ينكرها الغلاة، فيشددون الدين، ويضيقون على الفطرة والغرائز المودعة من قبل الحكيم العليم.
- خريج دارالحديث الحسنية
med.azraq.41@gmail.com

مِنْ وُجُوهِ الإعْجَازِ اللُّغَوِيِّ فِي القُرْآنِ الكَرِيم

د.بليغ حمدي إسماعيل بتاريخ السبت 14 فبراير 2015



مِنْ وُجُوهِ الإعْجَازِ اللُّغَوِيِّ فِي القُرْآنِ الكَرِيم


القرآن الكريم كنص لغوي معجز وفريد اتسم بالدلائل اللغوية الشاهدة على إعجازه ، فمثلاً نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى :  وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (آل عمران : 42)، فكلمة (اصطفاك ) الأولى بمعنى اختارك ، والثانية بمعنى فضلك ، وهذا النوع من التكرير للكلمات والأصوات يثير في النفس إحساساً بجمال التعبير ، من خلال تجاوب الأصوات وتناغم الأصوات. 

ومن أسباب جمال الجناس في التعبير القرآني ، تلاؤم الحروف وتناسب الألفاظ ، فيحدث التجاوب الموسيقي الصادر من تماثل الكلمات تماثلاً كاملاً أو ناقصاً ، ويلخص الفيروز أبادي هذه الفائدة بقوله : " وأما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال، وكمال الكلام" ، نحو قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (البقرة: 24). 

وفي السطور الآتية نورد عدداً من الأمثلة بغير إخلال أو تفريط ـ إن استطعنا ذلك ـ و التي توضح وتشير إلى اختلاف دلالة اللفظ الواحد باختلاف وروده وذكره في سياق لغوي معين . 
1 ـ البَغْتَةُ والفَجْأةُ : 

اكتسبت لفظة البغتة من السياق القرآني إيحاءً خاصاً بها ، فهي في أصل اللغة: مشتقة من باغَتَه مباغتةً: أي فاجأه بَغْتَةً . والبغت : مُفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب. إذن (البغتة) في اللغة تعني (المفاجأة) ،فهما لدى غير المدقق في المعنى اللغوي بمعنى واحد. أما في الاستعمال القرآني فهما متباينان ؛ إذ احتملت (البغتة) عنصراً دلالياً إضافياً على الفجأة؛ لأن هذه اللفظة لم يستعملها السياق القرآني نهائياً ، ولو تتبعنا سياق البغتة في القرآن كله ، بورودها ثلاث عشرة مرة ، لوجدنا فيها عنصراً دلالياً إضافياً ، وهو (التخويف بالعذاب) . 

واستقراء الآيات يؤدينا إلى أنها لا تستعمل إلا في سياقين لا ثالث لهما ، أحدهما: الوعيد بوقوع القيامة . والآخر: الوعيد بوقوع عذاب في الدنيا وشيك، كما في قوله تعالى يؤكد فيه وقوع العذاب على الكافرين ، بموعد ثابت قادم هو يوم القيامة ، إذ قال تعالى:  وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ  (العنكبوت : 53) ، وفي قوله تعالى يبين فيها طريقة مجيء العذاب للكافرين يوم القيامة ، حين يأتي مفاجئاً:  قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا (الأنعام : 31) . 

وقد اكتسبت البغتة في السياق القرآني إيحاءً خاصاً بها ، هو العذاب ، فضلاً عن المعنى اللغوي الذي تحمله وهو (الفجأة) ، وعند مجيء الساعة والعذاب للكافرين دون توقع لوقته مع الايذاء لمن لم يُعدّ لتلك الساعة العدّة ، من الهداية والإيمان. ولا يعلم أحد متى مجيء هذه الساعة. 
وقد تنبه بعض المحدثين إلى أن السر في استعمال السياق القرآني لفظة (البغتة) فقط دون لفظة ( الفجأة) ، مع أن لهما المعنى اللغوي نفسه ، وهوأن في البغتة عنصراً دلالياً إضافياً غير موجود في الفجأة ، بل هو زائد عليها، وهو (التلبس بالعقاب) دنيوياً كان أو آخروياً ؛ وبذلك فإن لفظة (الفجأة) لا تمنح السياق الإيحاء الكامل المعبّر عن الحدث القرآني بشكل دقيق وكامل كما تمنحه لفظة ( البغتة) ؛ لأن الثانية اكتسبت من السياق القرآني معنىً إضافياً ، هو الإشعار بالأذى والعقوبة. 

2 ـ القَدَرُ : 
من الألفاظ التي تباينت دلالتها أيضاً في القرآن الكريم باختلاف ورودها داخل سياق النص القرآني المطهر لفظة ( القدر ) ومشتقات حروفها الأصلية الثلاثة وهي : ق د ر، فغالباً ما نجد معنى القضاء مرادفاً مماثلاً لكلمة القدر كما في قوله تعالى : مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (الأحزاب : 38) أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ، وأيضاً قوله تعالى : نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( الواقعة :60) أي صرفناه بينكم ، وقال الضحاك :ساوى فيه بين أهل السماء وأهل الأرض. 

ولكن تعددت دلالات كلمة (القدر ) في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، فمن تلك الدلالات ورودها بمعنى (التمكن) كما في قوله تعالى : لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (إبراهيم:18) أي فلم يقدروا على شئ من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا ، وقوله تعالى : حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس:24) وفي هذه الآية الكريمة ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً لزهرة الحياة وزينتها ، وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الأنعام ، ومعنى قادرون عليها أي على جذاذها وحصادها فبينما هم كذلك إذا جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها . 
وجاءت لفظة( القدر) بمعنى ( التدبير ) في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى في سورة طه :  فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (طه:40) يقول الله تعالى مخاطباً لموسى (عليه السلام) : إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملأه يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ،ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد ، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ولهذا قال تعالى :  ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ، أي على موعد وهذا رأي مجاهد ، وقال قتادة : على قدر الرسالة والنبوة. وقوله تعالى :  إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (المدثر:18ـ20) أي إنما أرهقناه صعوداً لبعده عن الإيمان لأنه فكَّر، و قَدَّرَ أي تروَّى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ماذا يختلق من المقال . 

وجاءت لفظة ( القدر ) بمعنى التوقير والتعظيم مثل قوله تعالى :  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ(الأنعام:91) أي وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير ، وقيل نزلت في طائفة من اليهود، وقيل في فنحاص وهو رجل منهم ، وقيل في مالك بن الصيف ، والأول أصح ؛ لأن الأية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد (صلى الله عليه وسلم) لأنه من البشر، ومثل قوله تعالى :  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الزمر:67). 

وأتت مُشتقات كلمة (القَدَر ) في القرآن الكريم بدَلالاتٍ مختلفةٍ ، فمنها ما أشارت إلى معنى (التحديد) كقوله تعالى :  وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( المؤمنون:18) ، وفي هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر ، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر ، ويقال لها الأرض الجرزيسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر ، فيسقي أرض مصر ، ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه ؛ لأن أرضهم سباخ يغلب عليهم الرمال . 

وقوله تعالى في سورة الزخرف :  وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(سورة الزخرف:11) .أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم، وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم. 
وجاءت لفظة القدر بمعنى (التضييق والابتلاء) مثل قوله تعالى :  اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ(سورة الرعد:26) ، يذكر الله تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء ، لما في ذلك من الحكمة والعدل ، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً . 
وقوله تعالى :  وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ(سورة القصص:82) أي ليس المال دليلاً على رضا الله عن صاحبه ، فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيق ويوسع ، ويخفض ويرفع ، وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب"، وقوله تعالى في سورة القلم :  وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ(سورة القلم:25) ، أي قوة وشدة ، وقال مجاهد : على جد ، وقال عكرمة : على غيظ ، و قَادِرِينَ أي عليها فيما يزعمون ويرومون. 

3 ـ السَّغب والجُوعُ: 
جاءت لفظتا ( السغب ) و ( الجوع) بإيحاء خاصٍ بهما في التعبير القرآني . فالسغب لغة: مشتق من سَغَبَ يَسْغب سُغُوباً ومسغبةً . والساغِب : الجائع ، والسَغبُ : الجوع من التعب . وقد قيل هو في العطش مع التعب . وهي مرادفة للجوع . و(السغب) و(الجوع) لفظتان ، أكسبهما التعبير القرآني ، إيحاء خاصاً بهما، فضلاً عن معناهما الأساس ( المعجمي) . فإذا ذكر الجوع في النص القرآني، فلا يكون إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع ، والعجز الظاهر ، بقرينة السياق . 

وقد وردت لفظة (الجوع) في التعبير القرآني خمس مرات ، كانت في ثلاثة مواضع منها مقترنة بلفظة (الخوف) ، فيكون السياق بهذه القرينة ، سياق ابتلاء وامتحان ، أو عقوبة لأصحاب النار ، كما في قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ  (البقرة 155) ، أخبرنا الله عز وجل أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى :  فأذاقها الله لباس الجوع والخوف فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ، فقد ذكر الجوع في موضعين منفرداً، ولكن قرينة السياق كانت واضحة في أنه عقاب وبلاء ، وذلك في قوله تعالى يخاطب فيها نبي الله آدم  بأنه محفوظ في الجنة من بلاء الجوع والعُري ،وذلك قبل نزوله إلى الأرض:إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (طه: 118) . فيكون عدم الجوع فيها نعمة من نعم الله تعالى عليه وعلى زوجه. 

أما لفظة (السغب) فتذكر مع الرحمة و (( في حالة القدرة والسلامة)) ، نحو قوله تعالى يحث المؤمنين على إطعام الناس في يوم الجوع :  أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (البلد : 14) ، بقرينة السياق المتأخرة في قوله تعالى : يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ  (البلد : 15-16) . فبذلك تكون لفظة (الجوع) ، قد اكتسبت من التعبير القرآني هنا معنى العقوبة والبلاء من السياق القرآني ، أما لفظة (السغب) ، فقد اكتسبت معنى الرحمة، والضعف . 

4 ـ المَطَرُ والغَيْثُ : 
تُعد لفظة المطر من الألفاظ التي اكتسبت إيحاء خاصاً في التعبير القرآني أيضاً ، فالمطر لغةً يعني : الماء المنسكب من السحاب ، أما في التعبير القرآني ،فقد اكتسبت لفظته إلى جانب معناها المعجمي معنىً آخر، هو العقاب ، بقرينة السياق اللفظي. فالمطر لم يرد في التعبير القرآني كما يقول الجاحظ في كتابه " البيان والتبين " : " إلا في موضع الانتقام ، والعامة واكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث " . 
وقد وهِمَ الراغب الأصفهاني حين عدّ لفظ (المطر) من ألفاظ الخير، وأن هناك صيغة مشتقة منها هي التي وردت للتعبير عن العذاب ، وهي (أمطر) ،فقد ذكر أن مطر : " يُقال في الخير ، و(أمطر) في العذاب " ، وإذا رجعنا إلى النص القرآني نجده يعبّر بهذه اللفظة عن الشر والعقاب ، بكل اشتقاقاتها ، وبقرينة السياق، ومنه قوله تعالى:  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطرُ الْمُنْذَرِينَ  (الشعراء : 173) أي أنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود . 
والمطر يوحي بالتدفق القوي والغزارة ، أكثر من أية لفظة أخرى تعبّر عن نزول الماء من السماء . والذي ساعد على هذا الايحاء ، صوت (الطاء) المطبق كما أشار الدكتور كمال بشر في كتابه " علم اللغة العام" ، الذي يصور نزول العذاب من السماء فنشعر بإطباقه عليهم . فبذلك تكون هذه اللفظة قد ناسبت غضب الله  وشدة انتقامه بنزول ذلك العقاب الشديد عليهم من حجارة وغيرها . كالذي في قوله تعالى يتحدث عن قوم لوط  : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الْمُجْرِمِينَ (الأعراف: 84) . فنلحظ أن لفظتي (مطر) و( أمطرنا) في النص القرآني قد دلّتا معاً على نزول العذاب الشديد ، لا نزول الغيث الذي هو نعمة ورحمة للعباد . 
ويشمل نزول المطر في التعبير القرآني ، فضلاً عن الماء ، الحجارة ، نحو قوله تعالى ، في إمطار الحجارة:  وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ  (هود: 82) ، أي أنه مطر يوحي بالعقم والخراب . والسجيل في اللغة: حجارة كالمدر ، وهو حجر وطين مختلط ، ويفسر أنه فارسي مُعرب دخيل . ويقال: هذا الشيء مسجل للعامة ، أي مرسل من شاء أخذه أو أخذ منه. 
أما الغيث فهو الماء النافع النازل من السماء ، المنبت للكلأ ، نحو قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ  (الشورى : 28) ، وهذا يعني أنه الماء المثمر الذي يحمل الخير معه، وذلك بقرينة السياق اللفظي المتأخر . والذي قوى هذا الإيحاء هو صوتا (الغين والثاء) فرخاوتهما كما يذكر الدكتور بسام بركة في كتابه " أصوات اللغة العربية " ، قد ناسبت نزول الماء الخفيف الذي أنعش ما نزل عليه، فأنبت به . 

5 ـ الفتح : 
أيضاً من الألفاظ التي اكتسبت إيحاء خاصاً في التعبير القرآني لفظة الفتح ، من الفعل الثلاثي فَتَحَ) ومشتقاته ، فلقد اختلفت دلالة الكلمة باختلاف السياق الي وردت فيه ، ودلت على عدة معاني منها الصد، والضد ، والعطاء ، والنصر ، والقضاء ، والحكم . 
فمن معنى الصد والضد قوله تعالى : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( الأنعام :44) ، أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم ففتح الله عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم . 
وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( الأعراف :40) ، وقيل في تفسير هذه الآية الكريمة أن المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء وقال بهذا مجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ورى ذلك الضحاك عن ابن عباس وبه قال السدي . ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال : " خرجنا مع رسول الله r في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله r ،وجلسنا حوله كأن على رؤسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : " استعيذوا بالله من عذاب القبر ـ مرتين أو ثلاثاً ـ ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال : فتخرج تسيل كما يسيل القطر في السقاء ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن ، وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، هذا بخلاف العبد الكافر . 
وجاءت لفظة (الفتح) بمعنى ( القضاء ) أو ( الحكم) كما في قوله تعالى :  رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( الأعراف :89) ، أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم وأنت يا الله خير الحاكمين فإنك العادل الذي لا يجور أبداً. وقوله تعالى :  فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (الشعراء:118) . 
ومن أمثلة ورود كلمة (الفتح) بمعنى أعطى قوله تعالى :  قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( البقرة :76) ، أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به. 
وأيضاً ما أفادت الكلمة معنى أعطى قول الله تعالى :  وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( الأعراف :96) ، ويخبر الله تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس آي آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، وقوله تعالى : لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ  أي قطر السماء ونبات الأرض . 
وجاءت لفظة ( الفتح ) بمعنى ( النصر ) كما في قوله تعالى :  فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( المائدة:52) ، يعني فتح مكة ، وقيل : يعني القضاء والفصل ، وقوله تعالى :  إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال:19) ، يقول الله للكفار إن تستفحوا أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم؛ كما قال أبو جهل ، حين التقى القوم : اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة؛ فكان المستفتح ، وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين ، فقال تعالى :  إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ  يقول: لقد نصرت ما قلتم وهو محمد r.

 البخاري وصحيحه
بقلم: د. فتحي أبو الورد
ولد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في شوال سنة أربع وتسعين ومائة 194 للهجرة في بخارى، وألهم حفظ الحديث وهو ابن عشر سنين كما يقول عن نفسه، وحين بلغ من عمره ست عشرة سنة صحب أمه وأخاه للحج بمكة، وبعد أن أنهوا المناسك عاد أخوه وأمه وبقى هو بمكة في طلب الحديث.
طلب الحديث في كبريات منارات العلم في عصره على أيدى أكابر العلماء والمحدثين في مكة، والمدينة، وبغداد، والبصرة، والكوفة، ومصر، والشام، وبخارى، وبلخ، ومرو.
وعن كتابه المعروف بصحيح البخاري قال: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب (الجامع الصحيح)، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما أدخلت فيه إلا ما صح، وتركت من الصحاح كي لا يطول الكتاب، وأخرجته من زهاء ستمائة ألف حديث. وما وضعت فيه حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين.
وللأسف هناك بعض من لا يعرف سنن الغسل أو الأغسال المستحبة أو الواجبة في الفقه الإسلامي يتطاول على رجل في طهارة البخاري ويسخر من صحيحه.
ومما يستأنس به في هذا الصدد ما ذكره أبو زيد المروزي الفقيه قال: كنت نائما بين الركن والمقام، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: (جامع) محمد بن إسماعيل.
نحن تتحدث عن رجل عطرت سيرته مجالس الصالحين، وزين صحيحه مكتبات الدنيا وحلق العلم. ولا يذكر الحديث الصحيح إلا والبخاري في مقدمة المأمومين والمقصودين، ولذلك كان من المسلمات لدى أهل العلم الشرعي إذا نقل أحدهم حديثا عن صحيح البخاري يكفى أن يقول: رواه البخاري، غير محتاج إلى حكم عليه من أئمة الحديث وعلماء الجرح والتعديل.
كتابه الجامع الصحيح هو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وذلك لأن البخاري كان أسن الجماعة، (وهم البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) وأقدمهم لقيا للكبار، أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة عن رجل عنهم.
سلمت له الأمة ممثلة في علمائها بإمارة الحديث وإمامته. قال الحاكم: البخاري إمام أهل الحديث. وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.
وفى توثيقه للحديث وتثبته قال: كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث. فإن لم يكن، سألته أن يخرج إليَ أصله ونسخته.
واعترافا بفضله، ومعرفة بحقه، وإنزالا لقدره، كان يحيى بن جعفر يقول: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم. وجاء الإمام  مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقال: دعني أقبل رجليك يا سيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.
وقال أبو عيسى الترمذي: لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل. وقال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وفى حفظه وإحاطته بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمرو بن العلاء: حديث لا يعرفه البخاري ليس بحديث.
مثله في الزهد والورع لا يعبأ بمن ينالون من عرضه، إنه ينظر إلى الآخرة التي نساها من تطاولوا عليه، وعند الله تجتمع الخصوم.
قال بكر بن منير: سمعت أبا عبد الله البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا. وعقب على هذا الإمام الذهبي فقال: صدق - رحمه الله - ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَ أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث. حتى إنه قال: إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو متهم واه. وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا، وهذا هو والله غاية الورع.
اشتد به المرض في آخر أيامه، فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى نحبه في قرية تسمى خرتنك من قرى سمرقند سنة ست وخمسين ومائتين للهجرة 256هـ.
قال بعض من حضروا جنازته: لما دفناه فاح من تراب قبره رائحة غالية أطيب من المسك، فدام ذلك أياما.
إن رجلا في قدر وقيمة البخاري لا يبغضه إلا جاهل أو حاقد أو صاحب هوى وغرض، وإن الهوى شر إله عبد في الأرض.

اللهم إني شهدت بما علمت عن عبدك محمد بن إسماعيل مما جاءنا في أوثق مصادر التراجم والأعلام، وبرئت ممن أساء إليه ونال منه، فاجعل شهادتي قربة منى إليك، وأمارة يعرفني بها يوم العرض عليك، واجعلني ممن يشفع له – إن كان من أهل الشفاعة -  بين يديك.


          دعاء
دعاء جميل     



اللوحة من ابداع حسين حسين

*********************************************************************************************************

في سجود السهو : محمد بن صالح العثيمين


  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي بلغ البلاغ المبين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن كثيراً من الناس يجهلون كثيراً من أحكام سجود السهو في الصلاة.

- فمنهم من يترك سجود السهو في محل وجوبه.
- ومنهم من يسجد في غير محله.
- ومنهم من يجعل سجود السهو قبل السلام وإن كان موضعه بعده.
- ومنهم من يسجد بعد السلام وإن كان موضعه قبله.

ولذا كانت معرفة أحكامه مهمة جداً، لاسيما للأئمة الذين يقتدي الناس بهم وتقلدوا المسؤولية في اتباع المشروع في صلاتهم التي يؤمون المسلمين بها، فأحببت أن أقدم لإخواني بعضاً من أحكام هذا الباب راجياً من الله تعالى أن ينفع به عباده المؤمنين فأقول مستعيناً بالله تعالى مستلهماً منه التوفيق للصواب:

. سجود السهو: عبارة عن سجدتين يسجدهما المصلي لجبر الخلل الحاصل في صلاته من أجل السهو، وأسبابه ثلاثه: الزيادة، والنقص، والشك.

* أولاً: الزيادة:
إذا زاد المصلي في صلاته قياماً، أو قعوداً، أو ركوعاً، أو سجوداً متعمداً بطلت صلاته، وإن كان ناسياً ولم يذكر الزيادة حتى فرغ منها فليس عليه إلا سجود السهو، وصلاته صحيحة، وإن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها وسجود السهو، وصلاته صحيحة.
مثال ذلك: شخص صلى الظهر (مثلاً) خمس ركعات ولم يذكر الزيادة إلا وهو في التشهد[  ] ، فيكمل التشهد، ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.
فإن لم يذكر الزيادة إلا بعد السلام سجد للسهو وسلم، وإن ذكر الزيادة وهو في أثناء الركعة الخامسة جلس في الحال فيتشهد ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم.

دليل ذلك: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: "وما ذاك؟" قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم. وفي رواية: فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم. (رواه الجماعة).

السلام قبل تمام الصلاة:
السلام قبل تمام الصلاة من الزيادة في الصلاة، ووجه كونه من الزيادة أنه زاد تسليماً في أثناء الصلاة، فإذا سلم المصلي قبل تمام صلاته متعمداً بطلت صلاته.
وإن كان ناسياً ولم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد ا لصلاة من جديد.
وإن ذكر بعد زمن قليل كدقيقتين وثلاث فإنه يكمل صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم، دليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر أو العصر فسلم من ركعتين فخرج السرعان من أبواب المسجد يقولون: قصرت الصلاة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى خشبة المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، فقام رجل فقال يا رسول الله: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم أنس ولم تقصر"، فقال الرجل: بلى قد نسيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: "أحق ما يقول؟" قالوا: نعم، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ما بقي من صلاته ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم. (متفق عليه).
وإذا سلم الإمام قبل تمام صلاته وفي المأمومين من فاتهم بعض الصلاة فقاموا لقضاء ما فاتهم ثم ذكر الإمام أن عليه نقصاً في صلاته فقام ليتمها، فإن المأمومين الذين قاموا لقضاء ما فاتهم يخيرون بين أن يستمروا في قضاء ما فاتهم ويسجدوا للسهو، وبين أن يرجعوا مع الإمام فيتابعوه، فإذا سلم قضوا ما فاتهم، وسجدوا للسهو بعد السلام. وهذا أولى وأحوط.

* ثانياً: النقص:
أ. نقص الأركان:
إذا نقص المصلي ركناً من صلاته فإن كان تكبيرة الإحرام فلا صلاة له سواء تركها عمداً أم سهواً؛ لأن صلاته لم تنعقد.
وإن كان غير تكبيرة الإحرام فإن تركه متعمداً بطلت صلاته.
وإن تركه سهواً فإن وصل إلى موضعه من الركعة الثانية لغت الركعة التي تركه منها، وقامت التي تليها مقامها، وإن لم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده، وفي كلتا الحالين يجب عليه أن يسجد للسهو بعد السلام.
مثال ذلك: شخص نسي السجدة الثانية من الركعة الأولى فذكر ذلك وهو جالس بين السجدتين في الركعة الثانية فتلغو الركعة الأولى وتقوم الثانية مقامها، فيعتبرها الركعة الأولى ويكمل عليها صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.
ومثال آخر: شخص نسي السجدة الثانية والجلوس قبلها من الركعة الأولى فذكر ذلك بعد أن قام من الركوع في الركعة الثانية فإنه يعود ويجلس ويسجد، ثم يكمل صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.

ب. نقص الواجبات:
إذا ترك المصلي واجباً من واجبات الصلاة متعمداً بطلت صلاته.
وإن كان ناسياً وذكره قبل أن يفارق محله من الصلاة أتى به ولا شيء عليه.
وإن ذكره بعد مفارقة محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه رجع فأتى به ثم يكمل صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.
وإن ذكره بعد وصوله إلى الركن الذي يليه سقط فلا يرجع إليه فيستمر في صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم.
مثال ذلك: شخص رفع من السجود الثاني في الركعة الثانية ليقوم إلى الثالثة ناسياً التشهد الأول فذكر قبل أن ينهض فإنه يستقر جالساً فيتشهد، ثم يكمل صلاته ولا شيء عليه.
وإن ذكر بعد أن نهض قبل أن يستتم قائماً رجع فجلس وتشهد، ثم يكمل صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.
وإن ذكر بعد أن استتم قائماً سقط عنه التشهد فلا يرجع إليه فيكمل صلاته، ويسجد للسهو قبل أن يسلم.
دليل ذلك: ما رواه البخاري[  ]  وغيره عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس (يعني التشهد الأول) فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم.

* ثالثاً: الشك:
الشك: هو التردد بين أمرين أيهما الذي وقع.
والشك لا يلتفت إليه في العبادات في ثلاث حالات:
الأولى: إذا كان مجرد وهم لا حقيقة له كالوساوس.
الثانية: إذا كثر مع الشخص بحيث لا يفعل عبادة إلا حصل له فيه شك.
الثالثة: إذا كان بعد الفراغ من العبادة فلا يلتفت إليه ما لم يتيقن الأمر فيعمل بمقتضى يقينه.

مثال ذلك: شخص صلى الظهر فلما فرغ من صلاته شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً فلا يلتفت لهذا الشك إلا أن يتيقن أنه لم يصل إلا ثلاثاً فإنه يكمل صلاته إن قرب الزمن ثم يسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم، فإن لم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد الصلاة من جديد.
وأما الشك في غير هذه المواضع الثلاثة فإنه معتبر.

ولا يخلو الشك في الصلاة من حالين:
الحال الأولى: أن يترجح عنده أحد الأمرين فيعمل بما ترجح عنده فيتم عليه صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.
مثال ذلك: شخص يصلي الظهر فشك في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة لكن ترجح عنده أنها الثالثة فإنه يجعلها الثالثة فيأتي بعدها بركعة ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.

دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين" (هذا لفظ البخاري).

الحال الثانية: أن لا يترجح عنده أحد الأمرين فيعمل باليقين وهو الأقل فيتم عليه صلاته، ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم.

مثال ذلك: شخص يصلي العصر فشك في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة ولم يترجح عنده أنها الثانية أو الثالثة فإنه يجعلها الثانية فيتشهد التشهد الأول، ويأتي بعده بركعتين، ويسجد للسهو ويسلم.
دليل ذلك: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً -أي أربع- كانتا ترغيماً للشيطان".

ومن أمثلة الشك: إذا جاء الشخص والإمام راكع فإنه يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم معتدل، ثم يركع وحينئذ لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتيقن أنه أدرك الإمام في ركوعه قبل أن يرفع منه فيكون مدركاً للركعة وتسقط عنه قراءة الفاتحة[  ] .
الثانية: أن يتيقن أن الإمام رفع من الركوع قبل أن يدركه فيه فقد فاتته الركعة.
الثالثة: أن يشك هل أدرك الإمام في ركوعه فيكون مدركاً للركعة، أو أن الإمام رفع من الركوع قبل أن يدركه ففاتته الركعة، فإن ترجح عنده أحد الأمرين عمل بما ترجح فأتم عليه صلاته وسلم، ثم سجد للسهو وسلم إلا أن لا يفوته شيء من الصلاة فإنه لا سجود عليه حينئذ.

وإن لم يترجح عنده أحد الأمرين عمل باليقين (وهو أن الركعة فاتته) فيتم عليه صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم.

فائدة:
إذا شك في صلاته فعمل باليقين أو بما ترجح عنده حسب التفصيل المذكور ثم تبين له أن ما فعله مطابق للواقع وأنه لا زيادة في صلاته ولا نقص سقط عنه سجود السهو على المشهور من المذهب لزوال موجب السجود وهو الشك.
وقيل: لا يسقط عنه ليراغم به الشيطان[  ]  لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن كان صلى إتماماً كانتا ترغيماً للشيطان"، ولأنه أدى جزءاً من صلاته شاكاً فيه حين أدائه وهذا هو الراجح.
مثال ذلك: شخص يصلي فشك في الركعة أهي الثانية أم الثالثة؟ ولم يترجح عنده أحد الأمرين فجعلها الثانية وأتم عليها صلاته، ثم تبين له أنها هي الثانية في الواقع، فلا سجود عليه على المشهور من المذهب، وعليه السجود قبل السلام على القول الثاني الذي رجحناه.

سجود السهو على المأموم:
إذا سها الإمام وجب على المأموم متابعته في سجود السهو لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"، إلى أن قال: "وإذا سجد فاسجدوا" (متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).

وسواء سجد الإمام للسهو قبل السلام أو بعده فيجب على المأموم متابعته إلا أن يكون مسبوقاً أي قد فاته بعض الصلاة فإنه لا يتابعه في السجود بعده لتعذر ذلك إذ المسبوق لا يمكن أن يسلم مع إمامه، وعلى هذا فيقضي ما فاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.

مثال ذلك: رجل دخل مع الإمام في الركعة الأخيرة، وكان على الإمام سجود سهو بعد السلام، فإذا سلم الإمام فليقم هذا المسبوق لقضاء ما فاته ولا يسجد مع الإمام فإذا أتم ما فاته وسلم سجد بعد السلام.

وإذا سها المأموم دون الإمام ولم يفته شيء من الصلاة فلا سجود عليه؛ لأن سجوده يؤدي إلى الاختلاف على الإمام واختلال متابعته؛ ولأن الصحابة[  ]  رضي الله عنهم تركوا التشهد الأول حين نسيه النبي صلى الله عليه وسلم فقاموا معه ولم يجلسوا للتشهد مراعاة للمتابعة وعدم الاختلاف عليه.

فإن فاته شيء من الصلاة فسها مع إمامه أو فيما قضاه بعده لم يسقط عنه السجود فيسجد للسهو إذا قضى ما فاته قبل السلام، أو بعده حسب التفصيل السابق.

مثال ذلك: مأموم نسي أن يقول: "سبحان ربي العظيم" في الركوع، ولم يفته شيء في الصلاة، فلا سجود عليه. فإن فاتته ركعة أو أكثر قضاها ثم سجد للسهو قبل السلام.

مثال آخر: مأموم يصلي الظهر مع إمامه فلما قام الإمام إلى الرابعة جلس المأموم ظناً منه أن هذه الركعة الأخيرة، فلما علم أن الإمام قائم قام فإن كان لم يفته شيء من الصلاة فلا سجود عليه، وإن كان قد فاتته ركعة فأكثر قضاها وسلم، ثم سجد للسهو وسلم. وهذا السجود من أجل الجلوس الذي زاده أثناء قيام الإمام إلى الرابعة.

. تنبيه:
تبين مما سبق أن سجود السهو تارة يكون قبل السلام، وتارة يكون بعده.
فيكون قبل السلام في موضعين:

- الأول: إذا كان عن نقص، لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو قبل السلام حين ترك التشهد الأول. وسبق ذكر الحديث بلفظه.

- الثاني: إذا كان عن شك لم يترجح فيه أحد الأمرين، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيمن شك في صلاته فلم يدر كم صلى؟ ثلاثاً أم أربعاً؟ حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد سجدتين قبل أن يسلم، وسبق ذكر الحديث بلفظه.

ويكون سجود السهو بعد السلام في موضعين:

- الأول: إذا كان عن زيادة لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمساً فذكروه بعد السلام فسجد سجدتين ثم سلم، ولم يبين أن سجوده بعد السلام من أجل أنه لم يعلم بالزيادة إلا بعده، فدل على عموم الحكم وأن السجود عن الزيادة يكون بعد السلام سواء علم بالزيادة قبل السلام أم بعده.
ومن ذلك: إذا سلم قبل إتمام صلاته ناسياً ثم ذكر فأتمها فإنه زاد سلاماً في أثناء صلاته فيسجد بعد السلام لحديث أبي هريرة رضي الله عنه حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فذكروه فأتم صلاته وسلم ثم سجد للسهو وسلم وسبق ذكر الحديث بلفظه.

- الثاني: إذا كان عن شك ترجح فيه أحد الأمرين لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من شك في صلاته أن يتحرى الصواب فيتم عليه، ثم يسلم ويسجد. وسبق ذكر الحديث بلفظه.

وإذا اجتمع عليه سهوان موضع أحدهما قبل السلام، وموضع الثاني بعده فقد قال العلماء : يغلب ما قبل السلام فيسجد قبله.
مثال ذلك: شخص يصلي الظهر فقام إلى الثالثة ولم يجلس للتشهد الأول وجلس في الثالثة يظنها الثانية ثم ذكر أنها الثالثة فإنه يقوم ويأتي بركعة ويسجد للسهو ثم يسلم.

فهذا الشخص ترك التشهد الأول وسجوده قبل السلام، وزاد جلوساً في الركعة الثالثة وسجوده بعد السلام فغلب ما قبل السلام، والله أعلم.

والله أسأل أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لفهم كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما ظاهراً وباطناً في العقيدة، والعبادة، والمعاملة، وأن يحسن العاقبة لنا جميعاً، إنه جواد كريم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.



                                                                    مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين 

*************************************************************************

أعلن رئيس المجمع العلمي لهيئة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة بجمهورية مصر العربية الدكتور عبد الباسط محمد السيد عن حقيقة علمية اكتشفتها الإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (ناسا) قبل عشر أعوام ولكنها أخفتها خشية من أن يتجه الكثير من الناس للإسلام , وهذه الحقيقه العلميه هي ليلة القدر. 

فقد أكتشف علما ناسا أن هناك من 10.000 إلى 20.000 شهاب يسقط على كوكب الأرض ويتفتت اغلبها بسبب الاحتكاك مع الغلاف الجوي بشكل يومي وعلى مدار السنه , إلا ليله واحده فقط لايسقط بها أي شهاب وتتوافق هذه الليله مع العشر الآواخر من شهر رمضان بالتقويم الهجري. 

وفي نفس السياق ذكر الدكتور عبدالباسط أن هناك حقائق علميه كثيره لايتم التصريح بها وهناك مالم يتم إكتشافه بعد , وذكر أن في العلم الحديث كان من المعروف أن جسم الإنسان يحتوي على 340 مفصل إلى أن إكتشف العالم الألماني شنين عام 2006م أن هناك مفصل صغير بالأذنين مركب من 10 مفاصل أي أن مجموع عدد مفاصل جسم الإنسان هو 360 مفصل , وهو مصداقا لما جاءت به السنه النبويه الشريفه. 

فقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن فروخ ، أنه سمع عائشة تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل. فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما من طريق الناس، وأمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى، فإنه يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار”. 

وفعلا فقد أسلم هذا العالم الألماني عندما قرأ الحديث النبوي الشريف وفي إحدى مقابلاته مع الدكتور عبدالباسط قال له: (لي عشرون عام وأنا أشرّح المفاصل لأكتشف اكتشافي وانتم تمتلكون هذه الحقيقه في كتبكم , لماذا لم تكشفوها لنا ؟ لقد تركتونا في ضلال). 

ومن الجدير بالذكر أن أكثر من ربع تعداد السكان بالدنمارك أعلن إسلامه نتيجه الحقائق العلميه المذهله والأدله الدامغه المذكوره في القرآن الكريم والسنه النبويه الشريفة. 


المصدر: مواقع و منتدياتy

المصدر: مواقع و منتديات



أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يناظر الخوارج


ذكر ابن الأثير: (أنَّ رجلاً من الخوارج اسمه بسطام بن بني يشكر، خرج في عهد

أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، ومعه جماعة من أتباعه، فبعث إليه

 عمر من يقف في وجهه، وكتب عمر إلى بسطام يسأله عن مخرجه، فكان في كتاب

 عمر: بلغني أنك خرجت غضبًا لله ولرسوله، ولست أولى بذلك مني، فهلم إليَّ

 أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يديك نظرنا

 في أمرك.

فكتب بسطام إلى عمر: قد أنصفتَ، وقد بعثتُ إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك.

 وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيًّا اسمه عاصم، ورجلاً من بني يشكر، فقدما

 إلى عمر.

وكان مما جاء في تلك المناظرة أن قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك، وسميتها

 مظالم، فإن كنت على هدى وهم على الضلالة فالعنهم وابرأ منهم.

فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبًا للدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها،

 إنَّ الله عز وجل لم يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم لعَّانًا، وقال إبراهيم عليه السلام

 : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، وقال الله عز وجل: {أُوْلَـئِكَ

 الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقد سميتُ أعمالهم ظلمًا، وكفى بذلك ذمًا ونقصًا، وليس

 لعن أهل الذنوب فريضة لابد منها، فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنتَ فرعون؟

 قال: ما أذكر متى لعنتُه. قال: أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم،

 ولا يسعني إلا أن ألعن أهل بيتي، وهم مصلون صائمون؟ قال: أما هم كفار بظلمهم؟

 قال: لا؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقر به

 وبشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثًا أقيم عليه الحد، فقال الخارجي: إنَّ رسول الله

 صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده.

قال عمر: فليس أحد منهم يقول: لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ

 القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء.
قال عاصم: فابرأ مما خالف عملك، ورد أحكامهم.
قال عمر: أخبرني عن أبي بكر وعمر، أليسا على حق؟ قالا: بلى.
قال: أتعلمان أنَّ أبا بكر حين قاتل أهل الردة، سفك دماءهم، وسبى الذراري، وأخذ

 الأموال؟
قالا: بلى.
قال: أتعلمون أنَّ عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية؟ قالا: نعم.
قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا: لا.
قال: أفتبرؤون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا.
قال: فأخبراني عن أهل النهروان وهم أسلافكم، هل تعلمان أنَّ أهل الكوفة خرجوا فلم

 يسفكوا دمًا ولم يأخذوا مالاً، وأنَّ من خرج إليهم من أهل البصرة قتلوا عبد الله بن

 خباب وجاريته وهي حامل؟ قالا: نعم.
قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ قالا: لا.
قال: أفيسعكم أن تتولوا أبا بكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة، وقد علمتم اختلاف

 أعمالهم، ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي، والدين واحد؟ فاتقوا الله، فإنكم جهال،

 تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردون عليهم ما قبل،

 ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، فإنكم يخاف عندكم من

 يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عند رسول الله

 آمنًا وحقن دمه وماله وأنتم تقتلونه، ويأمن عندكم سائر أهل الأديان، فتحرمون دماءهم

 وأموالهم

مشايخ الصوفية من نكران الذات إلى العلو في الأرض بغير حق

مشايخ الصوفية من نكران الذات إلى العلو في الأرض بغير حق
من أركان التزكية عند علماء السلوك والصوفية : اتهام النفس وعدم تزكيتها والحذر من مجاراة هواها ،وإصلاح أعطابها بالرياضة والمجاهدة،لأن تزكية النفس والرضا عنها يمنع التفتيش في عيوبها.
قال تعالى : (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أقلح من زكاها وقد خاب من دساها)..وقال سبحانه : (ولا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى)..وقال جل وعز : (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)..والنصوص في هذا المعنى كثيرة..
كان سادات القوم لا يقيمون لأنفسهم وزنا و لا يلتفتون للمداحين، كانوا لا يرون لهم حقا على الله ولا على عباده..ومنهم من كان يستحيي أن يسأل الله الجنة، ويكتفي بان بستعيذ به من النار.
بل كان منهم من يعتقد أن البلاء الذي ينزل بالناس، إنما هو من وجوده بين أظهرهم، ولو مات لارتاح الناس..وكان منهم من يستيقظ فيتحسس جسده خيشة أن يكون قد مسخ..وقصصهم من شدة الخوف مشهورة ومعروفة في كتب التراجم والطبقات.
ولهم في ذلك سلف صالح فهذا سيدنا أبو بكر الصديق يقول : يا ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن.
وهذا سيدنا عمر الفاروق يقول، وهو على فراش الموت : ليتني أخرج منها لا لي ولا علي، يعني خلافته للمسلمين، و ذلك بعد ثناء الناس عليه في آخر أيامه، بعد أن طعنه المجوسي أبو لؤلؤة.
وهذه أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق، لما اتهمها من اتهمها في عرضها، ونزلت براءتها في قرآن يتلى، تقول : ( والله لنفسي أحقر عندي من أن ينزل في قرآن يتلى..وإنما كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرؤني الله عز وجل فيها).
لكن جاء بعد هؤلاء الذين كان سلفهم بذلك المقام من شدة الخوف واحتقار النفس، من نحت مصطلحات كلها تدور حول تعظيم النفس وتزكيتها، مثل:
الغوث، والقطب الرباني، والكبريت الأحمر..وخاتم الأولياء..إلخ..
وتنافسوا في تلك الادعاءات الفارغة، حتى زعم شيخهم الأكبر أن قدمه على عنق كل ولي من لدن آدم إلى أن تنتهي الدنيا ومن عليها.
وذهبوا أبعد من ذلك ، فزعم بعضهم أنه يلتقي بالخضر صاحب موسى عليهما السلام ..
وآخر يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويمده بالأوراد، أو يشرب معه فنجان شاي..أو يحضر عقد قرانه..
ثم جاء من يزعم أن جبريل عليه السلام والملائكة تحفه بأجنحتها..
قال تعالى : ( يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين، ويقولون حجرا محجورا).
وبذلك أفسدوا على المسلمين نظام الاستدلال الذي بينه علماء الأصول، فجعلوا الذوق والكشف والإلهام، وحدثني قلبي عن ربي، وسمعت هاتفا، والتقيت الخضر، وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الورد في المنام أو في اليقظة..إلخ، فملؤوا كتبهم بالأحاديث المكذوبة والخرافات والبدع.
التحول الخطير
السؤال الآن : كيف حصل هذا التحول الخطير ، من الخوف من ذي الجلال واحتقار النفس في جنب الله عز وجل، والزهد في الدنيا، و التذلل للمؤمنين..إلى تضخم الأنا وتعظيم الذات وتزكية النفس، والعلو في الأرض بغير الحق، واحتقار الناس، وحملهم على تقديس الولي المزعوم، وفرض العطايا والمنح والضرائب على العامة..؟؟؟
الذي حصل ـ والله أعلم ـ أن كبار الزهاد والمخلصين المنقطعين للعبادة، حصلت لهم، بعد مجاهدات عظيمة: كرامات..
لأن من خرق العادة التي عليها الناس من حب الدنيا واتباع الهوى وطاعة الشيطان، خرق الله له العادة بإلغاء الأسباب أحيانا، أو باستجابة الدعاء..إلخ وهذا معنى الكرامة..وقد كان نبي الله زكرياء عليه السلام يدخل على مريم البتول فيجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، وفي الشتاء فاكهة الصيف، فيقول لها "أنى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله".
وخرق العادة ليس خاصا بها أو بغيرها، بل هي في حق الأنبياء تسمى معجزة، وفي حق الأولياء تسمى كرامة، وإن كان الفرق بينهما معروف..لكن ليس هذا موضع بحثنا.
الذي يهمنا الآن أن الناس لما رأوا أحوال أولئك العباد الزهاد، وما هم عليه من كرامات ربانية، عظموهم ، واجتهدوا في التقرب إليهم بشتى القربات طلبا للبركة أو الدعاء أو الاستشفاء، ثم ما لبثوا أن اتخذوهم وسائط بينهم وبين الله، حتى بعد مماتهم..
فزاروا قبورهم وأوقدوا عليها الشموع، وقدموا العطايا والمنح وذبحوا القرابين عند أعتابهم ، متوسلين بجاههم عند الله، أن يكشف همهم ويفرج كربهم ويشفي مرضاهم ويزيدهم من فضله.
بل إن رجال السلطة في كل عصر كانوا يتقربون من هؤلاء تعظيما لمقامهم عند الله، وأحيانا خوفا منهم ، لمكانتهم في نفوس العامة.
والنتيجة أن "مقام الولاية" أضحى مركزا كبيرا في المجتمع يتشوف إليه حتى المدعون، باعتباره جزءاً من السلطة ومركزا ماديا يدر الأموال والهبات والعطايا، ليس على الولي فحسب، بل أيضا على أقربائه وعشيرته، وأحيانا القبيلة التي ينحدر منها.
لكن لما كان مقام الولاية لا يحصل إلا بالمجاهدة والعبادة المتواصلة والزهد في الدنيا، وخدمة الناس دون مقابل...لم يبق لمن يروم الاستفادة من نتائجها الدنيوية ـ وهو كسول ـ إلا الادعاء أو "الوراثة"..فيشغل مريديه من أجل الدعاية الكاذبة له بأنه الكبريت الأحمر والولي وقطب الزمان والغوث..وكل تلك الألقاب الفضفاضة، من أجل سرقة الناس، كما كان سلفهم يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.
وقد كثر المدعون للولاية ، خصوصا بعد ظهور الطرق والزوايا، وظهرت المنافسة بين "الأولياء" المزعومين في عصور الانحطاط..ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لا يمكن أن نواجه الفساد والاستبداد، في حين نغض الطرف عن فساد واستبداد الزوايا التي تسيطر على أرواح العامة، وتسرق أموالهم.
فقد عادت الزاوية إلى موقعها المركزي في مجتمعاتنا المتخلفة، بدعم من الدول العظمى التي ترى فيها بديلا عن الديمقراطية، وحصنا في مواجهة السلفية الجهادية..وهي مستعصية عن التجديد، إلا بثورة علمية أوإدماجها في منظومة التحديث..وإلا فلننتظر جيلا من الخرافيين ينتشر بين أظهرنا في العقود القليلة المقبلة.

 فلسفة ابن رشد رحمه الله في الميزان*

فلسفة ابن رشد رحمه الله في الميزان*
قسم بعض الدارسين فلسفة ابن رشد رحمه الله تعالى1 إلى قسمين رئيسيين: قسم تركيبي انتقائي لم يكن فيها بدعا من الفلاسفة المسلمين الذين سبقوه بحيث حرص مثلهم على التوفيق بين الدين والفلسفة، ويمثل هذا القسم كتبه الثلاثة:فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، ومقالة فيما يعتقده المشاءون وما يعتقده المتكلمون.
وقسم تحليلي نقدي تمثله شروحه لكتب أرسطو، وفيها امتاز على غيره من الفلاسفة وجعله معدودا من كبارهم وأثبت له مدرسة متميزة دعاها الغربيون بالرشدية (ولم يكن مجرد شارح أو ناقل وإنما كان ممثلا للعبقرية الإسلامية التي تجلو الغوامض. وتضيف أكثر مما تأخذ، وكان أثناء شرحه يدخل فلسفته الأصلية فيما يشرح، وتبدو شخصيته قوية في شروحه فيحذف ما يرى حذفه، ويضيف ما تجب إضافته وأحيانا يبقي على النص لا يغير فيه شيئا. وهكذا يصول صولة الخبير والعبقري الناقد ويجول جولة العالم العظيم)2 .
فانتهى أمره عند الغربيين بشرحه الأكبر إلى تكوين قطب ثبت في الفلسفة (فالطبيعة تفسر بأرسطو وأرسطو يفسر بابن رشد)3 ورغم هذا الإعجاب الظاهري من الغربيين بفلسفة ابن رشد وتباكيهم على مصير الفلسفة في بلاد المسلمين بعد ابن رشد وخصوصا منهم رينان صاحب كتاب "ابن رشد والرشدية" فإنهم لا يلبثون يلمحون بل ويصرحون بأن أكبر عقل في نظرهم للحضارة الإسلامية لا يعدو أن يفهم عن العقل اليوناني الغربي ويشرح للناس مقصوده، و من ثم يشكر له عدم إتيانه كثير مناقضات للمعنى الحقيقي رغم تعامله مع ترجمات مبهمة غالبا4.
فهي لا تعرض غير ترجمة لاتينية من ترجمة عبرية لشرح قام على ترجمة عربية من ترجمة سريانية من أصل يوناني. ولهذا فهي شروح كما يقول رينان:(لا يمكن أن يكون لنا بها غير متعة تاريخية، وإن من الجهد الضائع أن نحاول استخراج نور منها لتفسير أرسطو، وذلك كما لو أريد الإطلاع على راسين بمطالعته في ترجمة تركية أو صينية)5.
ويشير العقاد إلى ضرورة التمييز في الفلسفة الرشدية بين فلسفته كما فهمها الأوروبيون في لغتها اللاتينية أو العبرية التي ذاعت إبان سلطان محاكم التفتيش حيث نسب إلى ابن رشد كل ما يسوغ تحريم فلسفته من إلحاد وزندقة، وبين فلسفته كما كتبها هو واعتقدها ودلت عليها أقواله المحفوظة لدينا6,وهذا ما يؤكده سلفادور غوميث نوغاليس أستاذ الفلسفة بالمعهد الإسباني العربي للثقافة بجامعة مدريد حيث يقول:(فابن رشد ليس هو الملحد العقلي كما صوره رينان، وليس هو الأرسطي الوثني الذي سلبنا الأبدية الشخصية للنفس الإنسانية، بل هو مسلم أصيل حاول أن يتعمق في مدلولات الوحي القرآني من أجل طمأنة أهل دينه في المعضلات التي يمكن أن يطرحها العقل أو رجالات الديانات الأخرى)7 .
ولعل القسم الأول من فلسفته هو الذي يمكن الاطمئنان إلى أنه يشكل فكر الرجل ولعل (ابن رشد تنبه إلى هذا فكتب: مناهج الأدلة في صورة إسلامية، بينما كانت شروحه لكتب أرسطو (…) خروجا عن الفكر الإسلامي متابعة لروح يوناني لفظه الإسلام لفظا تاما)8 ولئن جاءت فلسفة الكندي وابن سينا وابن طفيل وابن ماجة وغيرهم تعبيرا عن محاولة التوفيق بين العقل والنقل، فإن فلسفة ابن رشد قد حققت هذه الغاية وخاصة أن محاولة السابقين عنه قد اعتراها بعض النقص والقصور فانطلق من مبدأ أن العقل والدين يعبران في النهاية عن حقيقة واحدة. والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
وورود الظاهر والباطن في الشر ع يوافق اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم، وفيه تنبيه للراسخين في العلم على التأويل المناسب. فمثلا في الاستدلال على وجود الله يرفض أدلة أهل الظاهر والمتكلمين والمتصوفة وينقدها جميعا، ثم يستدل بدليل العناية الإلهية الذي يناسب ما ساقه من استشهادات كثيرة من القرآن الكريم، فهو برهان عقلي وديني أيضا. وكذلك دليل الاختراع: فكل شيء مسخر، لابد أن يكون مخلوقا. وإذا ثبت حدوثه كان ذلك دليلا على وجود الخالق. وأجزاء العالم المخترعة لابد لها من مخترع. وهو دليل يوافق أدلة القرآن، مثل قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت) (الغاشية 17 ) .
فهو دائما يشفع براهينه العقلية بآيات من القرآن الكريم تزيد براهينه قوة وتؤكد تطابق العقل والنقل، وكذلك الشأن في الوحدانية حيث يستدل بقوله تعالى:(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (الأنبياء:21) يقول ابن رشد:(فكأنه قال:لو كان فيهما آلهة إلا الله لوجد العالم فاسدا في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فواجب إلا أن يكون هنالك الإله واحد)9.وهذا الأسلوب العقلي في البرهنة يتخذه ابن رشد في معالجة كثير من المسائل العقائدية الأخرى مثل صفات الله، واضعا في الاعتبار ضرورة التفريق بشكل حاسم بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وكذلك برهنته على صحة القضاء والقدر والبعث وخلود النفس بأدلة تقنع الخاصة والعامة معا. وهكذا حققت فلسفته إمكانية طالما اشرأبت إليها أعناق المفكرين والفلاسفة وهي التقاء العقل بالدين وتطابق الحكمة والشريعة.
وما يؤخذ على ابن رشد بغض النظر عن مضمون فلسفته وخصوصا في شروحه على كتب أرسطو_ الإعجاب الشديد بأرسطو إذ كان يراه الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، وأنه حتى لو تم اكتشاف أشياء جديدة في الفلك والطبيعة لما غير ذلك من هذا الحكم شيئا. ويرى أن مذهبه لا يتعارض مع أسمى معرفة يستطيع أن يبلغها إنسان، ويرى أن الإنسانية عبر تاريخها بلغت في شخص أرسطو درجة عالية يستحيل أن يسطو عليها أحد.
بل يعتبره أسمى صورة تمثل فيها العقل الإنساني، ويميل إلى تسميته بالفيلسوف الإلهي . فهو يقول في تلخيص القياس:(فما أعجب شأن هذا الرجل وما أشد مباينة فطرته للفطر الإنسانية حتى كأنه الذي أبرزته العناية الإلهية لتوقفنا معشر الناس على وجود الكمال الأقصى في النوع الإنساني محسوسا ومشارا إليه بما هو إنسان ولذلك كان القدماء يسمونه الإلهي)10. ولهذا فإنه ليس (في أقاويل أرسطو شيء يحتاج إلى تتميم )11 وأن (نظره فوق جميع الناس)12. وهو أقصى ما يمكن أن يبلغه الشطط في الإعجاب والتقدير.
ولعل وقوعه رحمه الله في مثل هذه الأخطاء، وغيرها قد جر عليه ردود فعل عدد من الفقهاء وصل بعضها إلى رميه بسوء المعتقد، فهذا ابن دقيق العيد(ت 702ه) يرد عليه في رفضه تكفير الفلاسفة بسبب إنكارهم لقضايا مجمع عليها في الاعتقاد (وقد قال ابن دقيق العيد : أما من قال : إن دليل الإجماع ظني , فلا سبيل إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات , وأما من قال : إن دليله قطعي , فالحكم المخالف فيه إما أن يكون طريق إثباته قطعيا أو ظنيا . فإن كان ظنيا، فلا سبيل إلى التكفير، وإن كان قطعيا، فقد اختلفوا فيه ولا يتوجه الخلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل، فإنه يكون تكذيبا موجبا للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به إذا لم ينقل أهل الإجماع الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع، فتلخص أن الإجماع تارة يصحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع وتارة لا . فالأول لا يختلف في تكفيره , والثاني قد يختلف فيه .
فلا يشترط في النقل عن صاحب الشرع لفظ معين , بل قد يكون ذلك معلوما بالقطع بأمور خارجة عن الحصر , كوجوب الأركان الخمسة . فتنبه لهذا , فقد غلط فيه من يعتقد في نفسه، ويعتقد من المائلين إلى الفلسفة، حيث حكم بكفر الفلاسفة لإنكارهم علم البارئ عز وجل بالجزئيات، وحدوث العالم، وحشر الأجساد، فتوهم هذا الإنسان أن يخرج على الخلاف في مخالف الإجماع، وهو خطأ فاحش، لأن هذا من القسم الذي صحب التواتر فيه الإجماع تواترا قطعيا معلوما بأمور غير منحصرة . ا هـ . وكأنه رحمه الله يريد ابن رشد، فإن له كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال " ورد على الغزالي في تكفير الفلاسفة في ذلك . )13 .
ومن ذلك أيضا رد (شهاب الدين أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي الأنصاري الشافعي ت 975ه) صاحب فتاوى الرميلي 14 في معرض سؤال عن إثبات جهة العلو لله تعالى كما رأى ذلك عدد من العلماء من بينهم ابن رشد الحفيد فقال بعد بيان رأي الأشاعرة :( أما قول ابن رشد الحفيد فمردود إذ هو كذب حمله عليه اعتقاده الفاسد، وقد قال الإمام أبو علي عمر بن محمد بن خليل الإشبيلي السكوني الأشعري ( ت 717ه) وليحترز من كلام ابن رشد الحفيد ; لأن كلامه في المعتقد فاسد . ا هـ)
ولا يخفى ما في هذا الكلام من شدة وغلظة وخصوصا ما يتعلق برفض تأويل ظاهر بعض صفات الله تعالى إذ هو المنهج المعتبر عند سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والفرقة وهو الأسلم عند التحقيق إذا خلا الأمر من التشبيه والتجسيم. يقول ابن حجر عند حديثه عن اختلاف الأمة في النصوص التي يفيد ظاهرها الجهة والعلو والنزول: (ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن الكيفيه والتشبيه وهم جمهور السلف ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم (...) قال البيهقي وأسلمها الإيمان بلا كيف ) 15

ومن أخطائه رحمه الله تعالى اعتقاده أن علوم الفلسفة مطلوبة لمعرفة حقيقة الشريعة وهو ما تصدى للرد عليه الإمام الشاطبي (ت 790ه)حيث يقول: وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها. ولو قال قائل إن الأمر بالضد مما قال، لما بعد في المعارضة. وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها مع القطع بتحققهم بفهم القرآن؟ يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير فلينظر امرؤ أين يضع قدمه)16 ومهما يكن، فيمكن أن نقول مع ابن تيمية رحمه الله إن ابن رشد أقرب من تفلسف من أهل الإسلام إلى الإسلام17.
*المقالة بمناسبة احتفال المحرك العالمي"غوغل" بابن رشد رحمه الله.
هوامش:
1 ينظر بخصوص التفصيل في حياته العلمية وشيوخه وتلامذته وإبداعه في الجانب الفقهي بحثي لنيل الدكتوراة والمطبوع في مجلدين عن دار الكنوز إشبيليا بالرياض 2012 تحت عنوان "تربية ملكة الاجتهاد من خلال بداية المجتهد وكفايى المقتصد لابن رشد"
2 سعيد زائد :مقال ( ابن رشد وكتابه تهافت التهافت) مجلة تراث الإنسانية -المجلد السابع-العدد الثالث-مارس 1964 –مصر
3 رينان (ابن رشد والرشدية)ص73
4 نفسه:ص68
5 نفسه :ص69
6 عباس محمود العقاد (ابن رشد ) ص 30-31 –سلسلة نوابغ الفكر العربي –دار المعارف – مصر
7 محاضرات ومناقشات الملتقى العاشر للفكر الإسلامي بعنابة -10-19 يونيو1976 –المجلد الأول-ص98-منشورات وزارة الشؤون الدينية-الجزائر
8 علي سامي النشار (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ) ج1 ص204 دار المعارف،مصر،ط 5-1971
9 ابن رشد (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) ص68-69 ضمن (فلسفة ابن رشد) دار الآ فاق الجديدة-بيروت-1982
10 المتن الرشدي ص144
11 نفسه:ص171
12 نفسه :105
13 بدر الدين بن محمد بهادر الزركشي (ت794ه) (البحر المحيط) ج 6 ص501 الناشر: دار الكتبي
14 فتاوى الرميلي ج 4 ص 264-269 –عدد الجزاء:4-الناشر المكتبة الإسلامية
15 ابن حجر"فتح الباري "ج: 3 ص: 30 دار المعرفة بيروت1379
16 أبي إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي ت790 (الموافقات في أصول الشريعة) ج: 3 ص: 376 تحقيق عبد الله دراز-دار المعرفة- بيروت
17 أحمد بن تيمية (مجموع الفتاوى) ج 17 /ص295 جمع وترتيب:عبد الرحمن بن محمد العاصمي-أشرف على طبعه:الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين.

لماذا نزل القرآن على سبعة 


الأحد, 23 فبراير 2014 - 12:11 pm


القول المعتمد عند علماء القراءات أن المقصود من الأحرف السبعة التي ورد الحديث بها؛ أنها لغات سبع من لغات العرب؛ وأن القراءة التي يقرأ الناس بها اليوم، هي القراءة التي اعتمدها عثمان رضي الله عنه، وأمر زيداً بجمعها وإرسالها إلى أقطار المسلمين، وأجمع المسلمون عليها خلفًا عن سلف، واستقر العمل عليها فيما بعد.
ثم لسائل أن يسأل بعد هذا: لماذا لم ينـزل القرآن على حرف واحد فقط ؟ وما هي الحكمة وراء تعدد الأحرف القرآنية؟ والإجابة على هذا السؤال تابع معنا التحليل التالى لقد ذكر علماء القراءات العديد من الوجوه التي تبين الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف. ونحن -في مقامنا هذا- نقتطف من تلك الوجوه أوضحها وأظهرها، فمن ذلك:
- الدلالة على حفظ كتاب الله سبحانه من التبديل والتحريف؛ ووجه ذلك أنه على الرغم من نزول القرآن بأكثر من حرف، غير أنه بقي محفوظاً بحفظ الله له، فلم يتطرق إليه تغيير ولا تبديل، لأنه محفوظ بحفظ الله.
- ومن الحِكَم التخفيف عن الأمة والتيسير عليها؛ فقد كانت الأمة التي تشرَّفت بنـزول القرآن عليها أمة ذات قبائل كثيرة، وكان بينها اختلاف في اللهجات والأصوات وطرق الأداء...ولو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرف واحد لشقَّ الأمر عليها...والشريعة مبناها ومجراها على رفع الحرج والتخفيف عن العباد، يقول المحقق ابن الجزري -وهو من أئمة علماء القراءات-: "أما سبب وروده على سبعة أحرف فالتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها والتهوين عليها وتوسعة ورحمة". وقد جاء في الصحيح أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه يأمره أن يقرأ القرآن على حرف فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهون على هذه الأمة فأمره أن يقرأه على حرفين فطلب منه التخفيف إلى أن أمره أن يقرأه على سبعه أحرف.. والحديث في "صحيح مسلم".
- ومنها إظهار فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم؛ إذ لم ينـزل كتاب سماوي على أمة إلا على وجه واحد، ونزل القرآن على سبعة أوجه، وفي هذه ما يدل على فضل هذه الأمة وخيريتها.
- ومن الحكم أيضاً، بيان إعجاز القرآن للفطرة اللغوية عند العرب، فعلى الرغم من نزول القرآن على لغات متعددة من لغات العرب، غير أن أرباب تلك اللغات وفرسانها لم يستطيعوا مقارعة القرآن ومعارضته، فدلَّ ذلك على عجز الفِطَر اللغوية العربية بمجموعها على الإتيان ولو بآية من مثل آيات القرآن الكريم.
- ثم نضيف فوق ما تقدم فنقول: إن من حِكَم نزول القرآن على تلك الشاكلة تعدد استنباط الأحكام الشرعية، ومسايرتها لظروف الزمان والمكان والتطور..ولهذا وجدنا الفقهاء يعتمدون في الاستنباط والاجتهاد على علم القراءات -والقراءات جزء من الأحرف السبع التي نزل القرآن عليها- الذي يمدهم بالأحكام الشرعية، ويفتح لهم من الآفاق ما لم يكن كذلك لو نزل القرآن على حرف واحد. وعلى هذا يكون تعدد الأحرف وتنوعها مقام تعدد الآيات.
وفى الختام فان  تعدد تلك الحروف القرآنية وتنوعها يحمل دلالة قاطعة على أن القرآن الكريم ليس من قول البشر، بل هو كلام رب العالمين؛ فعلى الرغم من نزوله على سبعة أحرف، إلا أن الأمر لم يؤدِ إلى تناقض أو تضاد في القرآن، بل بقي القرآن الكريم يصدق بعضه بعضاً، ويُبيِّن بعضه بعضاً، ويشهد بعضه لبعض، فهو يسير على نسق واحد في علو الأسلوب والتعبير، ويسعى لهدف واحد يتمثل في هداية الناس أجمعين.
وصدق الله القائل في محكم كتابه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82) فلو كان القرآن مفتعلاً مختلقًا، كما يقوله من يقول من الجهلة والمضللين لوجدوا فيه اختلافًا، أي: اضطرابًا وتضاداً كثيراً، أما وإنه ليس كذلك، تعين بالضرورة أن يكون سالمًا من الاختلاف والتضاد. وهذا مقتضى أن يكون من عند الله سبحانه وتعالى
                                                           المصدر/جريدة الشعب المصرية


حسين حسين /الجزائر 
            رسول الله يخبر بان رجل من الرياض رفيقه بالجنه

        قصة واقعية حدثت مع داعية من دعاة الإسلام في الكويت يقول الداعية: 
بينما أنا نائم إذ رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لي: “أخبر فلان بن فلان الفلاني أنه من أهل الجنة”، فلما استيقظت وقد حفر اسم الرجل في ذاكرتي، لكني تعجبت من الأمر لأني لا أعرف رجلا بهذا الاسم، ولم أفعل شيئا لعدم معرفتي بالرجل، لكني كنت في ضيق كوني لم أجد طريقة لتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأني أعلم أن رؤياه حق وأنه يقع علي تنفيذ ما أمرني به.
وفي ليلة تالية رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية وردد علي ما قال في الرؤيا الأولى “أخبر فلان بن فلان الفلاني أنه من أهل الجنة”
استيقظت وبدأت أسأل وأتحرى أمر الرجل بحثت في دليل الهاتف، وسألت الاستعلامات، بل طلبت من بعض الأخوة في دوائر الأحوال المدنية أن يستطلعوا لي هذا الأمر، وكل محاولاتي باءت بالفشل.
ومرت أيام وأنا أكثر من دعاء الله أن يعرفني بهذا الرجل، وكنت أكثر من الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومرت أيام وأنا على هذا الحال، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيا ثالثة يقول لي : “أخبر فلان بن فلان الفلاني في مدينة الرياض وعنوانه كذا أنه من أهل الجنة”
لقد سرت عني هذه الرؤية، ولم أتردد في السفر إلى الرياض للبحث عن هذا الرجل المبارك، ولما وصلت العنوان، وسألت عن الرجل في حيه، دلني جيرانه عليه، طرقت بابه، ففتح لي رجل عادي المظهر، فسألته: أين أجد فلان بن فلان الفلاني؟
قال: أنا هو تفضل
قصصت على الرجل القصة فأجهش في البكاء وأعلن توبة إلى الله من كل الذنوب والمعاصي.
سألته : بالله عليك أخبرني بسرك، هل تقوم بعمل معين حتى تكون من أهل الجنة؟
فأطرق الرجل وقال بعد تردد: أقول لك على شرط ألا تذكر اسمي بين الناس، فإنه لا يعلم سري إلا الله،
فوافقت دون تردد.
قال لي : كان لي جار له زوجة وعيال وتوفاه الله، وأنا رجل موظف لكني أشعر بحاجة هذه العائلة فأقسم راتبي إلى نصفين أعطيهم نصفه دون أن يعرفوا من الذي ينفق عليهم، ولا يعلم أحد بهذا حتى زوجتي.
عندها عرفت السر فإن هذا الرجل كان مخلصا وصادقا في كفالة هؤلاء الأيتام، وأنفق من أعز ماله على قلته. فاستحق أن يكون رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ..
https://www.facebook.com/hcineabohilal?hc_location=timeline

هل قراءة القرآن جماعة، فعلا دخيلة على الإسلام؟

هل قراءة القرآن جماعة، فعلا دخيلة على الإسلام؟

في الأسطر التالية أستعرض آراء الفقهاء في هذا النوع من القراءة لنعرف من خلال ذلك هل هي فعلا دخيلة على الإسلام؛ وسأتناول ذلك من خلال الأسئلة التالية:
أولا: ما هو قول الجمهور في المسألة؟ هل الإمام النووي وحده الذي يقول بجوازها فقط كما يدعي البعض، أم جماهير الفقهاء وعلى رأسهم الإمام بن تيمية ..إلخ
ثانيا: هل صحيح أن السلف لم يعرفوا هذه القراءة؟
ثالثا: هل فعلا قراءة القرآن جماعة تدخل تحت مسمى البدعة كما هو متعارف عليه عند جمهور الفقهاء؟.
أولا: ما هو قول جمهور الفقهاء في هذه المسألة؟
اختلف الفقهاء في مسألة قراءة القرآن جماعة، فكرهها بعضهم، وذهب الجمهور إلى جوازها، بل ورأى بعضهم أنها مستحبة.
فمذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك وهو القول الثاني عند الأحناف؛ واستدلوا لذلك بالأدلة الدالة على عموم استحباب الذكر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم [ ..وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم...] والقرآن الكريم هو أول وأرفع أنواع الذكر.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله بعدما ذكر الاختلاف في هذه المسألة: واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجُملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذِّكر، والقرآن أفضلُ أنواع الذكر. اهـ جامع العلوم والحكم. الحديث 36.
قال الإمام النووي: "وفى هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور .. " اه شرح مسلم 17/21
وقال أيضا: " لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين بل هي مستحبة وكذا الادارة، وهى أن يقرأ بعضهم جزءا أو سورة مثلا ويسكت بعضهم ثم يقرأ الساكتون ويسكت القارئون " اه المجموع شرح المهذب ج2 ص 166.
قال الإمام البهوتي رحمه الله وهو على مذهب الأمام أحمد ( ولا تكره قراءة جماعة بصوت واحد ) اه شرح المنتهى 1/254.
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وَقِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ حَسَنَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ قِرَاءَةِ الْإِدَارَةِ قِرَاءَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ وَلِلْمَالِكِيَّةِ وَجْهَانِ فِي كَرَاهَتِهَا، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ ) اه الفتاوى الكبرى 5/344.
وقال الإمام السيوطي رحمه الله ( وحكى الشيخ عن أكثر العلماء أنها ) أي قراءة الإدارة ( حسنة كالقراءة مجتمعين بصوت واحد ) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 1/598.
وقد رأى الإمام النووي أن ما ورد عن الإمام مالك رحمه الله من كراهة قراءة القرآن جماعة، مخالف لما عليه عامة العلماء، فقال رحمه الله: " وعن وهب قال: قلت لمالك أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة حتى يختموها ؟ فأنكر ذلك وعابه وقال ليس هكذا تصنع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضة فهذا الإنكار منهما مخالف لما عليه السلف والخلف ولما يقتضية الدليل فهو متروك والاعتماد على ما تقدم من استحبابها ) اه التبيان في آداب حملة القرآن ص 36 : ( فصل في استحباب قراءة الجماعة مجتمعين ).
ثم إن الإنكار من مالك رحمه الله تعالى على هذه المسألة لا يعني أنها محرمة أو من بدعة الضلالة كما جاء على لسان السيد وراضي، فقد روي عنه أيضا أن القراءة من المصحف بدعة، قال ابن رجب: وقال ابن وهب ... قال مالك: وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف..." جامع العلوم والحكم. م س.
ولايسطيع أحد اليوم أن يقول ذلك، وكيفما كان الأمر فإن عامة الفقهاء المالكية تأولوا قول مالك رحمه الله في هذه المسألة:
فقال الإمام الونشريسي رحمه الله ملخصا هذه المسألة في مذهب مالك: ( قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، قال الإمام المازري: ظاهره –أي الحديث- يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد وإن كان مالك قد كره ذلك في المدونة، ولعله إنما قال ذلك لأنه لم ير السلف يفعلونه مع حرصهم على الخير، قال بعض الشيوخ: ولعله من البدع الحسنة كقيام رمضان وغيره، وقد جرى الأمر عليه ببلدنا بين أيدي العلماء، والأمر فيه خفيف؛ قلت: وجرى الأمر عليه بالمغرب كله، بل وبالمشرق فيما بلغنا ولا نكير، وما هو إلا من التعاون على البر وعمل الخير، ووسيلة لنشاط الكسلان، وقد نصوا على أن حكم الوسائل على حكم المتوسل إليه). اهـ المعيار 1/155.
ثانيا: هل صحيح أن السلف لم يعرفوا هذه القراءة؟
قراءة القرآن جماعة لم تكن معهودة بالمدينة ولذلك لم يستحبها مالك رحمه الله ولكنها كانت منتشرة في الشام في عهد السلف.
قال النووي: "وروى ابن أبي داود : أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون جميعا. وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين".اه
قال الحافظ ابن رجب: "وذكر حرب أنه رأى أهل دمشق وأهل حمص وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح، ولكن أهل الشام يقرءون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل البصرة وأهل مكة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آيات والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشر آيات حتى يفرغوا، قال حرب وكل ذلك حسن جميل وقد أنكر مالك على أهل الشام وقال زيد بن عبيد الدمشقي قال لي مالك بن أنس بلغني أنكم تجلسون حلقا تقرءون فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا، فقال مالك عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا قال: فقلت هذا طريف، قال وطريف رجل يقرأ ويجتمع الناس حوله فقال هذا من غير رأينا". انتهى. جامع العلوم .. م س.
من هنا نعلم أن ما يذكره بعض العلماء ممن يرون بدعة هذه القراءة، من أنها وجدت في المغرب فقط، وكمثال على ذلك قول الشيخ تقي الدين الهلالي في "مقالاته" ص 20: (وعمل السلف الصالح أن يقرأ أحد القوم و الباقون يسمعون ... هكذا كان الأمر في زمان النبي – ص- و بعده إلى يومنا هذا في جميع البلاد الإسلامية ما عدا بلاد المغرب في العصر الأخير، فقد وضع لهم أحد المغاربة و يسمى (عبد الله الهبطي) وقفاً محدثاً ليتمكنوا به من قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة، فنشأ عن ذلك بدعة القراءة جماعة بأصوات مجتمعة على نغمة واحدة و هي بدعة قبيحة تشتمل على مفاسد كثيرة..) انتهى. نعلم أن هذا الأمر كما تبين سابقا ليس صحيحا.
والمفاسد التي أشار لها الشيخ تقي الدين لا تسلَّم دليلا على تحريم هذه القراءة كما ذكر، والمجال لا يسمح باستعراضها هنا...
ثالثا: هل فعلا قراءة القرآن جماعة تدخل تحت مسمى البدعة كما هو متعارف عليه عند جمهور الفقهاء؟.
يعتقد بعض الناس أن البدعة هي: ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك يحكمون على كثير من أفعال التطوع بأنها بدعة ومنها قراءة القرآن جماعة، وهو الأمر الذي سار عليه هنا السيد الوراضي أيضا.
وهذا المفهوم لا يعتمده جهمور الفقهاء، وذلم لإنه يفضي إلى إدخال ما هو من قبيل المباح في معنى البدعة.
وترجع تعاريف عامة الفقهاء إلى أن البدعة بمعناها الشرعي هي: ما لا أصل له في الدين، وعلى هذا المعنى يتنزل قول الإمام ابن تيمية رحمه الله في معنى البدعة حيث يقول: " وقد قررنا في قاعدة السنة والبدعة: أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن.." مجموع الفتاوى 4/ 107-108.
ويتنزل عليه قول الإمام الشاطبي هي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) كتاب: الاعتصام. ص 26 ج 1.
وقول الحافظ ابن حجر حيث يقول: "والمراد بقوله: (كل بدعة ضلالة) ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام". فتح الباري 13/254
وصرح الحافظ ابن رجب بهذا المفهوم قائلا: " "فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين منه بريء". جامع العلوم والحكم ص 128.
هذا هو المفهوم الذي عليه عامة الفقهاء لمعنى البدعة، ولا يمكن سحبه على قراءة القرآن جماعة، إذ أنها من العبادات المطلقة التي تنبني على عموم الأمر بقراءة القرآن، هذا فضلا عن الأحاديث العامة المشعرة بجوازها بل واستحبابها كقوله صلى الله عليه وسلم: " ... وما اجتمع قوم ... يتلون..." الحديث هكذا بصيغة الجمع، وقد ذكر الحافظ ابن رجب كثيرا من هذه الأحاديث، يمكن الاطلاع عليها في كتابه جامع العلوم والحكم.
ثم ينضاف إلى كل هذا كثير من المقاصد الشرعية الأخرى...
ختاما أقول: لا يخفى أن القراءة الفردية بشكل عام أفضل، لكن تعميم القول بأن قراءة القرآن جماعة بدعة، قول غير صحيح عند جمهور الفقهاء؛ من هنا يظهر تهافت الادعاء بأنها دخيلة على الإسلام...
أسأل الله تعالى أن يحعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
                                                                        إمام بدوسلدورف/ ألمانيا


=====================================================
                                       صلاة العاجز /المصدر الجزائر نيوز
أصل (الصلاة) الدعاء، وحالة الخوف أولى بالدعاء؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في جميع الأحوال؛ في الصحة والمرض، والحضر والسفر، والقدرة والعجز، والخوف والأمن، ولا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وقد وردت ثلاث آيات لها ارتباط بفقه صلاة المريض:
الأولى: قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} (البقرة:239).
الثانية: قوله سبحانه: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} (آل عمران:191).
الثالثة: قوله عز وجل: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} (النساء:103).
وهذه الآيات الثلاث ليست صريحة بأحكام صلاة المريض، لكن المفسرين تحدثوا عن أحكام صلاة المريض في أثناء تفسيرهم لهذه الآيات؛ ووجه ارتباط الآية الأولى بصلاة المريض أن الخائف من عدو ونحوه يمكن أن يؤدي الفريضة على الوجه الذي يتيسر له، فألحق العلماء بالخائف المريض؛ للاشتراك في العلة، وهي عدم القدرة على أداء الصلاة على الوجه المشروع والمسنون.
 والآية الثانية تتحدث عن (الذكر)، والصحيح أنها عامة في كل ذكر، لكن بعض المفسرين حملها على الصلاة؛ لأن الصلاة ذكر، فمن ثَمَّ تحدثوا عن هذه الأحوال من أداء الصلاة. وبخصوص هذه الآية روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رأى الناس يضجون في المسجد، فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: أليس الله تعالى يقول: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم}؟ قال: إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة، إن لم تستطع قائماً فقاعداً، وإن لم تستطع فصلِّ على جنبك. فالمراد الصلاة نفسها؛ لأن الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة.
والذكر المأمور به في الآية الثالثة الجمهور على أنه إنما هو إثر صلاة الخوف؛ أي: إذا فرغتم من الصلاة، فاذكروا الله بالقلب واللسان، على أي حال كنتم.
وعلى القول بأن هذه الآيات في الصلاة، ففقهها أن الإنسان يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه؛ وفي الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري، ولما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قاعداً، كما في البخاري.
وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً”. قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث غير أبي داود الحفري، وهو ثقة، ولا أحسب هذا الحديث إلا خطأ.
واستناداً لما تقدم من الآيات الثلاث، مشفوعة بهذين الحديثين، فقد اختلف العلماء في كيفية صلاة المريض، والقاعد، وهيئتها. وحاصل أقوالهم تتجه وفق التالي:
 أولاً: الأصل أن يؤدي المصلي الصلاة قائماً، لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (البقرة:238).
ثانياً: العاجز عن الصلاة قياماً يتربع في قيامه، فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق، فإذا أراد الركوع حنى ظهره قليلاً، فإذا أراد السجود تهيأ للسجود على قدر ما يطيق. وهذه الهيئة قال بها جمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع، ويسجد.
ثالثاً: أجمع أهل العلم على أن من لا يستطيع القيام، له أن يصلي جالساً، فإن عجز عن الصلاة جالساً، فإنه يصلي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والمستحب أن يكون على جنبه الأيمن، فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقياً. روي عن مالك قوله: من قدر صلى قائماً، فإن لم يقدر صلى معتمداً على عصا، فإن لم يقدر صلى جالساً، فإن لم يقدر صلى نائماً على جنبه الأيمن، فإن لم يقدر صلى على جنبه الأيسر. قال أبو حنيفة ومالك: إذا صلى مضطجعاً تكون رجلاه مما يلي القبلة. وقال الشافعي: يصلي على جنبه ووجهه إلى القبلة؛ تحرزاً من مدِّ رجليه صوب القبلة.
رابعاً: متى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزاً عنه من قيام، أو قعود، أو ركوع، أو سجود، أو إيماء، انتقل إليه، وبنى على ما مضى من صلاته، وهذا قول جمهور أهل العلم. وقال الحنفية: يبدأ الصلاة من جديد.
خامساً: من عَجَزَ عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، وإن كان ظهره متقوساً فصار كأنه راكع، فمتى أراد الركوع زاد في انحنائه قليلاً، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثرَ ما أمكنه ذلك. ومن لم يقدر على الإيماء برأسه كفاه النية والقول. ولا تسقط عنه الصلاة مادام عقله ثابتاً بأي حال من الأحوال. والمريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود، ويستطيع القيام والجلوس، يصلي قائماً، ويومئ إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس، وأومأ إلى السجود. هذا قول جمهور أهل العلم. وقال أبو حنيفة: يصلي قاعداً.
سادساً: من كان به مرض، فقال له أطباء: إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك، وإلا فلا، فله أن يصلي مستلقياً.
سابعاً: إذا نام المريض عن صلاة، أو نسيها، وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه، أو حال ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها) رواه أبو يعلى في “مسنده”، وإسناده صحيح. ولا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، فلا يجوز له ترك المفروضة حتى يفوت وقتها، ولو كان مريضاً ما دام عقله ثابتاً، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته. فإذا تركها عامداً، وهو عاقل مكلف يقوى على أدائها، ولو إيماء فهو آثم. وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كُفْره بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر) رواه أصحاب السنن غير أبي داود.
ثامناً: إن شق على المريض فعل كل صلاة في وقتها، فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، جمع تقديم أو جمع تأخير، حسبما تيسر له، إن شاء قدَّم العصر مع الظهر، وإن شاء أخر الظهر مع العصر، وإن شاء قدَّم العشاء مع المغرب، وإن شاء أخر المغرب مع العشاء. أما الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا مع ما بعدها؛ لأن وقتها منفصل عما قبلها وعما بعدها.
تاسعاً: صلاة الراقد القادر على القيام روي من حديث عمران بن حصين زيادة، ليست موجودة في غيره، وهي: (صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد)، قال ابن عبد البر: “هو حديث لم يروه إلا حسين ابن ذكوان عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافاً يوجب التوقف عنه. إن صح الحديث فلا أدري ما وجهه؛ وجمهور أهل العلم لا يجيزون النافلة مضطجعاً؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعاً لمن قدر على القعود، أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقداً لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إما غلط وإما منسوخ”.
وحاصل القول هنا: إن على المكلف أن يقيم الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط عنه بحال، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين للزم فعلها؛ كذلك إذا لم يقدر على حركة سائر الجوارح، وبهذا المعنى تميزت عن سائر العبادات؛ فإن العبادات كلها تسقط بالأعذار، ويترخص فيها بالرخص الضعيفة؛ ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن تارك الصلاة يُقتل؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال. وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام، لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال، يقتل تاركها، وأصله الشهادتان.

القسم بغير الله بين الكراهة والتحريم
1/18/2014 2:20:14 PM
   
* يسأل كمال سالم المنوفي مقيم بأرض اللواء: ما حكم القسم بغير الله كالحلف بالنبي والكعبة؟
** يجيب الشيخ جابر طايع وكيل وزارة الاوقاف بالجيزة: روي البخاري ومسلم ان النبي صلي الله عليه وسلم قال حين سمع عمر يحلف بأبيه "إن الله ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وروي أبو داود والترمذي قوله صلي الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك" ويقول العلماء: ان الحلف الذي يجوز وتترتب عليه آثاره هو ما كان بالله أو بصفة من صفاته أما الحلف بغير ذلك فهو غير ملزم ولا تترتب آثار علي عدم البر به. ومع ذلك فهو ممنوع كما نص عليه الحديث.وجاء التغليظ بأنه خروج عن الاسلام عن طريق الشرك بالله وعدم الايمان به.. ودرجة المنع من الحلف بغير الله مختلف فيها بين الحرمة والكراهة. ويري جمهور الشافعية انه مكروه تنزيها. وجزم ابن حزم بالتحريم وأخطر ما يكون التجريم هو الحكم بالكفر أو الشرك علي من حلف بغير الله وهو لا يريد تعظيمه كتعظيم الله. فان من كفر مسلما بدون وجه حق كان كافرا والحديث الذي رواه البخاري ومسلم في ذلك معروف وهو "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. فان كان كما قال والا رجعت عليه" وفي رواية لأبي داود والنسائي "من قذف مؤمنا بكفر فهو كقائله" والحاكم علي الحالف بغير الله بالكفر لم يطلع علي نيته وقد أمر الله بالتبين وقال في ذلك "ولاتقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمناً"
* تسأل هناء فتحي من الجيزة: سيدة توفي عنها زوجها وليس لها أولاد ولها أخوة وأولاد أخ متوفي.. فهل لهم نصيب في الميراث؟
** يجيب الشيخ طلعت يونس وكيل معهد المدينة المنورة بالاسكندرية: للزوج النصف فرضا. وللإخوة النصف الباقي تعصيباً. ولا شيء لأولاد الأخ المتوفي لأنهم محجوبون بالاخوة.
* يسأل علي فتحي من القاهرة: خطبت فتاة لمدة عام تقريباً بدون عقد قران ثم أخبرتني والدتها أن ابنتها رضعت من أختي التي توفيت أكثر من 5 رضعات. فهل يجوز اتمام الزواج منها. أم هي تعتبر أختي من الرضاع ويحرم عليَّ الزواج منها؟!
** يجيب الشيخ محمد عبدالهادي مدير ادارة أوقاف البدرشين: الفتاة التي رضعت من أختك 5 مرات فأكثر صارت بنتا لها من الرضاع.وبالتالي صارت بنت أختك أنت ومعلوم ان بنت الأخت هي من المحارم اللاتي يحرم الزواج منهن يقول تعالي "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت" وبناء علي هذا الحديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ولذلك صارت هذه الرضيعة بنت أختك فلا يصح لك أن تتزوجها.
                                                                                المصدر/جريدة المساء المصرية



الجذور التاريخية لاحتفال المغاربة بعيد المولد النبوي

الجذور التاريخية لاحتفال المغاربة بعيد المولد النبوي


حرر بتاريخ الاثنين 6 يناير 2014 من طرف عبد العزيز أيت سي

إن الباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي للمولد النبوي الشريف بالمغرب الأقصى يتبين له بجلاء ما كان لعلماء المغرب وأولياء الأمر فيه من دور رائد، تأصيلا وتقعيدا وتنزيلا، وشرحا وتحليلا، وبيانا وتفصيلا، وتنكشف له مظاهر الاحتفال وتقاليده الاجتماعية الأصيلة، والتي درجت عليها الشعوب الإسلامية عموما، والمغاربة خصوصا، حتى أصبحت من تراثها الشعبي، لما ترمز إليه من أبعاد دينية واجتماعية وثقافية.

وتتنوع مظاهر الاحتفال هاته بين الليالي الدينية القائمة على تدارس القرآن وتلاوة الأذكار والصلوات وقراءة الأمداح النبوية، وسرد السيرة النبوية والشمائل المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام ومجالس العلم والمواكب الدينية.

وقد أفرز الاهتمام بهذه الذكرى أدبا جديدا ورائعا عرف ب «الموالد النبوية» أو «المولديات» سواء في النثر أو في الشعر، والتي كانت تقرأ أو تنشد سواء في شهر المولد النبوي (ربيع الأول) أو في مناسبات مختلفة. وقد أصبح تراث «الموالد» النبوية مجالا غزيرا وواسعاً يستقطب الباحثين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي. وقد ذكر عبد الرحمن الكتاني ومحمد الكتاني في تقديمهما لكتاب والدهما محمد الباقر الكتاني «روضات الجنات في مولد خاتم الرسالات» خمسين كتابا تتعلق بالمولد النبوي، واقتصرا فيها على كتب المغاربة فقط.1
وترجع بدايات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بالمغرب إلى منتصف القرن السابع للهجرة عندما استحدثت أسرة العزفيين التي كان رجالها من أعلام مدينة سبتة ورؤسائها عادة الاحتفال بالمولد النبوي، وألف كبيرهم يومئذ أبو العباس أحمد بن محمد العزفي المتوفى عام 639 هـ على عهد الخليفة الموحدي المرتضى كتاب «الدر المنظم في مولد النبي المعظم» الذي أكمله ابنه الرئيس أبو القاسم المتوفى عام 677هـ.

ولا بأس على أهل المغرب أن يتخذوا يوم مولد الرسول عيدا لهم، فقد تولى علماؤهم النظر في مشروعيته، ووجدوا له وجها مقبولا، فهذا أبو العباس العزفي يشير في مقدمة كتابه إلى الأسباب التي حفزته على الدعوة إلى استحداث الاحتفال بالمولد النبوي، فيصف في حسرة وأسى مشاركة مسلمي سبتة والأندلس للمسيحيين في احتفالاتهم بعيد النيروز يوم فاتح يناير، والمهرجان أو العنصرة يوم 24 يونيو، وميلاد المسيح عليه السلام يوم 25 دجنبر. وأبرز أهمية الاحتفال بحدث المولد وانعكاساته الإيجابية.

ومع إقرار المؤلف بأن عمل الاحتفال بمولد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدعة لم يكن على عهد السلف الصالح رضوان الله عليهم، فإنه يجعله من البدع المستحسنة استنادا لقول عمر رضي الله عنه في الاجتماع على تراويح رمضان نعمت البدعة هذه، ويخرجه على حديث أنس رضي الله عنه في عيدي الفطر والنحر. وذلك لأنه أراد بهذا العمل أيضا صرف المسلمين ولا سيما الصبيان عن الاحتفال بالأعياد المعظمة في الأديان الأخرى، حتى لا ينشأوا على تعظيم تلك الأديان...2

وكتاب العزفي ليس هو الوحيد الذي وضعه علماؤنا في الموضوع، فإن لأبي الخطاب بن دحية السبتي أيضا كتاب «التنوير في مولد السراج المنير»، ألفه للملك أبي سعيد التركماني صاحب إربل، لما قدم عليه فوجده يحتفل بالمولد الشريف، كما يفعل أهل بلده سبتة.3
ولقد كان تبني أعلام سبتة للاحتفال بالمولد النبوي نابعا من طبيعة المغاربة الذين شبّوا على اعتناق المالكية والتعلق بالحضرة النبوية، وكذا رفضهم لبعض الآراء المذهبية التي كانت في تلك الفترة، وفي ذلك ما ينسجم مع صنيع القاضي عياض في العهد المرابطي ـ وما العهد ببعيد ـ الذي ألف كتابه «الشفا بتعريف حقوق المصطفى».

وواصل العلماء الانتصار لهذا العمل مظهرين فائدته العظمى، وجدواه على التعبئة الوجدانية للأمة وربطها بأمجادها، ومن الذين تناولوه بالنظر الفقهي العارف بالله، الإمام ابن عباد الرندي، شارح الحكم العطائية، فقد تعرض للموضوع في إحدى فتاواه، وبسطه بسطا جميلا، قال: « الذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع وإمتاع البصر، وتنزه السمع والنظر، والتزين بما حسن من الثياب، وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر، قياسا على غيره من أوقات الفرح، والحكم بأن هذه الأشياء لا تسلم من بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم العهود، وتقشع بسببه ظلام الكفر والجحود، ينكر على قائله، لأنه مقت وجحود. وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان، أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة وترده الآراء المستقيمة...». ثم ذكر حكاية وقعت له مع الولي الصالح الشيخ سيدي ابن عاشر السلاوي، حيث كان ابن عباد خارجا في يوم المولد فوجد الشيخ ابن عاشر مع جماعة من أصحابه فاستدعوه لأكل الطعام، فاعتذر ابن عباد بأنه صائم، فنظر إليه سيدي ابن عاشر نظرة منكرة، وقال له: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، فلا يستقيم فيه الصيام لأنه يوم عيد. قال ابن عباد رحمه الله: « فتأملت كلامه فوجدته حقا، وكأني كنت نائما فأيقظني من النوم».4

وهذا الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق ينحو نفس المنحى، إذ يقول في كتابه: جنا الجنتين في شرف الليلتين :»سمعت شيخنا الإمام أبا موسى بن الإمام رحمة الله عليه وعلى غيره من مشيخة المغرب، يحدثون فيما أحدث من ليالي المولد في المغرب، وما وضعه العزفي في ذلك، واختاره وتبعه في ذلك ولده الفقيه أبو القاسم وهما عن الأيمة، فاستصوبوه واستحسنوا ما قصده فيها والقيام بها، وقد كان نقل عن بعض علماء المغرب إنكاره، والأظهر في ذلك عندي ما قاله بعض الفضلاء من علماء المغرب أيضا وقد وقع الكلام في ذلك فقال ما معناه: لا شك أن المسلك الذي سلكه العزفي مسلك حسن».5

وفي موضوع مشروعية الاحتفال بالمولد - أيضا- ما نقله الشيخ بنيس في شرحه على همزية الإمام البوصيري، أن ليلة المولد ويومها عيد وموسم، يتعين أن يعظم ويحترم، ويعمل فيه ما يدل على التعظيم والاحترام، وهو ما اختاره الحافظان العراقي والسيوطي.
وقد تولع الخليفة الموحدي المرتضى بهذا الاحتفال، وأصبح «يقوم بليلة المولد خير قيام، ويفيض فيها الخير والإنعام» حتى وقف في حضرته ذات يوم الأديب الأندلسي أحمد بن الصباغ الجذامي منشدا إحدى روائعه بمناسبة المولد النبوي فقال في مطلعها: 6

تنعم بذكر الهاشــــــمــــي محمــــد *** ففي ذكره العيش المهنأ والأنـــسُ
أيا شــــاديا يشدو بأمداح أحمـــــــد *** سماعك طيب ليس يعقبُه نكـْــــس
فكررْ رعــاك الله ذكـــرَ محمـــــــد *** فقد لذت الأرواح وارتاحت النفس
وطاب نعيم العيش واتصل المنـــى *** وأقبلت الأفـراح وارتفــع اللبـــس
له جمـع الله المعانــي بأســـــرهـــا *** فظاهره نــور وبـــاطنه قـــــــدس
فكل لـــه عـرس بذكـــــر حبيبـــــه *** ونحن بذكر الهاشميِّ لنا عـــــرس
وما يزال أحد أبيات هذه القصيدة حتى الآن بمثابة لازمة يتملى بترجيعها المسمعون والمنشدون في حلقاتهم، وهو قوله:
وقوفا على الأقــــدام في حق سيــــد *** تعظمه الأمــلاك والجن والإنــــس
وقد عرف هذا الأمر ازدهارا كبيرا على العهد المريني ثم الوطاسي من بعده، فكان الملوك أنفسهم يرأسون مهرجانات المولد ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، كما أصدر السلطان أبو يعقوب يوسف المريني المتوفى سنة 691 هـ أمرا بوجوب إحياء ليلة المولد النبوي واعتبارها عيدا رسميا كعيدي الفطر والأضحى، «وأصبح ملوك الأندلس يحتفلون في الصنيع والدعوة وإنشاد الشعر اقتداء بملوك المغرب» على حد ما قاله ابن خلدون.7 وقد أضاف أبو سعيد المريني الاحتفال باليوم السابع من العيد، وإلى ذلك يشير أبو العباس أحمد بن عبد المنان المتوفى عام 792 هـ في قصيدة يخاطب بها أبا عنان فيقول:8
وموسم جــل قدرا باعتنـــــاك بــــــه *** راقت لياليه وازدانـــت سوابعــــه
كما أصبح توقيف العمل يوم المولد النبوي تقليدا متبعا في العهد المريني، وإلى ذلك يشير ملك بن المرحل إذ يقول مستعرضا بعض مراسيم الاحتفال بهذه المناسبة:9

فحــــق لنــــا أن نعتنـــي بــــــولاده *** ونجعل ذلك اليوم خير المواســـــم
وأن نصــــل الأرحام فيــــه تقربــــا *** ونغدو له من مفطــرين وصائـــــم
ونترك فيـــه الشغـــل إلا بطاعـــــــة *** ومــا ليس فيـه مـن ملام ولائــــــم
وسرعان ما انتقل الاحتفال بالمولد النبوي إلى الأوساط الشعبية فكانت الحفلات تقام في الزوايا وحتى في المنازل، وإلى ذلك يشير ابن الدراج في كتابه «الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع» فيذكر أن أكثر ما يتغنى به أهل فاس بهذه المناسبة تتصل موضوعاته بمدح الرسول وتشويق النفوس إلى زيارة البيت الحرام ومواقعه، وإلى المدينة المنورة ومعالمها 10، كما يشير إلى ذلك الرحالة أبو علي الحسن الوزان الفاسي في كتابه «وصف إفريقيا» فيذكر أن التلاميذ يقيمون احتفالا بالمولد النبوي، ويأتي المعلم بمنشدين يتغنون بالأمداح النبوية طول الليل.

وسوف يبلغ هذا الاحتفال قمة اكتماله في عهد الشرفاء السعديين، وذلك عندما اتخذ المنصور السعدي من عيد المولد النبوي أكبر احتفال رسمي للدولة والأمة، فكان يقيم في قصره بمراكش الحفلات الفخيمة، يزينها بالشموع الموقدة، وإنشاد القصائد والمولديات. وقد أفاض في هذا الموضوع أكثر من مؤرخ، منهم أبو الحسن التمجرُوتي المتوفى عام 1003 هـ الذي يقول في رحلته المسماة «النفحة المسكية في السفارة التركية» واصفا احتفال المنصور في مراكش عام 998 هـ: «وأنشدوا القصائد ومقطعات في مدح النبي المكرم وفضل مولده العظيم، ونظموا في ذلك الدر المنظوم، وبالغوا في ذلك وأطنبوا... وانبسطوا بألسنة فصاح ونغمات ملاح وطرائق حسنة، وفنون من الأوزان المستحسنة، فأصغت الآذان عند ذلك بحسن الاستماع إلى محاسن السماع». ومن هؤلاء أيضا أحمد بن القاضي المكناسي الذي نوه في كتابه «المنتقى المقصور على محاسن الخليفة المنصور» بما كان يصنعه بهذه المناسبة.

أما عبد العزيز الفشتالي مؤرخ الدولة السعدية فقد أتى بما يذهل الألباب في كتابه «مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا» إذ يقول: «والرسم الذي جرى به العمل... أنه إذا طلعت طلائع ربيع الأول... توجهت العناية الشريفة إلى الاحتفال له بما يربي على الوصف... فيصيّر الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية من المؤذنين النعارين في السحر بالأذان.. حتى إذا كانت ليلة الميلاد الكريم.. تلاحقت الوفود من مشايخ الذكر والإنشاد... وحضرت الآلة الملوكية... فارتفعت أصوات الآلة وقرعت الطبول، وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم... وتقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشايخهم... واندفع القوم لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في مدائح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يخصها اصطلاح العزف بالمولديات نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وترق لها الإطلاع، وتبعث في الصدور الخشوع، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، ويتفننون في ألحانها على حسب تفننها في النظم. فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمات تقدم أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتُري رضي الله عنه وكلام القوم من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيت من نفيس الشعر».11

وفي عهد الدولة العلوية اتسع نطاق الاحتفال، وأصبحت تقام ليلة عيد المولد وليلة سابعه في مختلف الزوايا والأضرحة وبعض المساجد والبيوتات، حيث تنشد الأمداح النبوية الشريفة، كما تتلى قصة المولد النبوي الكريم. وكان المغاربة عموما يتلون قصة المولد النبوي للبرزنجي مخللة بتصلية المدني.12
وورد في كتاب «مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن» أن الشيخ أبا المحاسن رضي الله عنه كان يطعم الناس في ذلك اليوم، ... ويحضر خلق من المساكين لا يحصون، فيأكلون ويحملون ما أمكن؛ يصنع ذلك في اليوم الثاني عشر وفي سابعه أيضا، وهو اليوم الثامن عشر على ما جرت به العادة في فاس.
ولقد أصبح من مظاهر هذا الاحتفال، أن يقام على المستوى الرسمي احتفال يرأسه سلطان البلاد ويرعاه بنفسه، وتلتئم حول حضرته جموع من المسمعين الوافدين من مختلف حواضر المملكة. وما زالت هذه السنة دَيْدَنَ ملوك الدولة، دأبوا على إحيائها وتوارثوها خلفا عن سلف تأكيدا لحب المغاربة قاطبة لجدهم صلى الله عليه وسلم وتشبثهم بآل بيته الطاهرين.

أما على المستوى الشعبي، فتجدر الإشارة إلى احتفال أهل سلا، والذي أصبع يعرف بموكب الشموع في إشارة إلى أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت نورا وهداية للجميع، وقد ارتبط هذا الاحتفال بالولي الصالح الفقيه مولاي عبد الله بن حسون، والذي كان معروف القدر والمكانة عند المولى أحمد المنصور الذهبي الذي أقطعه البقعة التي اختط بها زاويته ودار سكناه. فكان رضي الله عنه مولعا بعمل المولد النبوي، عظيم الاحتفال به حيث كان يرأس هذا الاحتفال وكذا الاحتفالات التي كانت تقام بزاويته طيلة أسبوع تخليدا لذكرى الرسول الكريم. فكان يحتفل للمولد غاية الاحتفال وكان يأتيه لحضور موسمه عنده بزاويته من حواضر البلاد وبواديها العلماء والأولياء وشيوخ الزوايا وأهل السماع.
ولا زالت جل الزوايا في كل المدن والمناطق المغربية تحتفل بالمولد النبوي، وتقيم له المواسم وتحيي له ليالي الذكر والمديح.

ولابد من الإشارة - في هذا السياق -- إلى الحفل الديني البودشيشي الكبير الذي دأبت على إحيائه الطريقة القادرية البودشيشية باعتباره - حاليا - من أكبر الاحتفالات الخاصة بهذه المناسبة، وذلك بما يعرفه من توافد عدد كبير من المريدين والذاكرين والزائرين، ذكورا وإناثا، مغاربة وأجانب من جنسيات عربية وأوربية وأمريكية وأسيوية وافريقية حيث يقدر عددهم بحوالي المائة ألف، وكذلك بما يميز برنامجه الذي يجمع بين التعبد والتعلم، وذلك ما خلق اهتماما داخليا وخارجيا بهذه الطريقة، وفضولا إعلاميا بشتى أنواعه حول منهجها التربوي الصوفي.

لقد كان للسلف الصالح من العلماء العاملين والأولياء العارفين بهذا البلد، اختيارات موفقة في العقيدة والعبادات والسلوك، واجتهادات صائبة سنوا بها لقومهم سننا حسنة، وقتهم شر الفرقة والتشرذم، وجعلتهم كتلة متراصة، وجسما واحدا.

وبقدر ما كان للعلماء من حرص على ربط اجتهاداتهم بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح، بقدر ما رعت الأمة كل الرعاية اختيارات علمائها، وعضت عليها بالنواجذ، ووقفت في وجه الخارجين عن ميثاق الجماعة واختيارات الأمة تحت ذرائع وشبه وأباطيل، دحضها العلماء وفندوها. لقد اجتهد السلف في قضايا لم تكن في العهد النبوي، وأوجدوا لها حلولا، ولم يقفوا متفرجين، كما يريد بعض الخلف اليوم للفكر أن يتوقف عن كل حركة لحل ما يستجد من المشاكل على ضوء أصول الشرع ومقاصده.

(*) باحث في التاريخ المعاصر
هوامش
1 محمد الباقر الكتاني، روضات الجنات في مولد خاتم الرسالات، تقديم: عبد الرحمن الكتاني ومحمد الكتاني، مطبعة الأمنية بالرباط، 1395هـ/1975م، ص.16- 30.
2 عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت 1961، ج.1، ص.132.
3 المصدر السابق.
4 أبو العباس أحمد الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1401هـ/1981م، ج.11، ص.278-279.
5 م.س، ج.11، ص.280.
6 ديوان ابن الصباغ الجذامي، مخ. خ. ع. بالرباط.
7 التعريف بابن خلدون، تصح. محمد بن تاويت الطنجي، ص. 8.
8 فتح الله البناني، كتاب فتح الله في مولد خير خلق الله، ص. 161.
9 ابن الأحمر، نثير الجمان، ص. 324 ـ 326.
10 ابن الدراج،الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع، تحقيق: محمد بنشقرون.
11 الفشتالي، مناهل الصفا، تحقيق: عبد الكريم كريم، ص.236 ـ 238.
12 آسية الهاشمي البلغيثي، المجالس العلمية السلطانية على عهد الدولة العلوية، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، مطبعة فضالة، 1416هـ/1996م، ج.1، ص.214.

0 التعليقات: