الاثنين، 25 مايو 2015

تهافت صاحب القراءة المتهافتة


تهافت صاحب القراءة المتهافتة
إن الشباب المسلم يتعرض لسيل جارف من الشبهات المشككة في دينه أو مذهبه، وهي شبهات مستندة إلى روايات مذكورة في مصادر الحديث، وبعضها فيما أعطي العصمة والبراءة المطلقة كصحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله.
فما العمل؟ هل نبرر فنؤكد الشكوك لدى الشباب والمثقفين الذين لم يعودوا يصدقون رجال الدين؟ أم ننكر وجود تلك الروايات كما يفعل المتعنتون، فيكفر الشباب بالدين والمذهب ويتمردون؟ أم نعيد النظر في تلك الروايات على ضوء كتاب ربنا وسنة نبينا السليمة والمعايير العقلية القويمة؟
إننا لا نهدف للطعن في الصحيحين، ولا نتوخى التشكيك في مجمل الأحاديث، بل ندعو لمراجعة أسانيد ومتون الروايات التي تسبب المشاكل النفسية والحيرة الذهنية والظلمة القلبية لدى شباب ومثقفي أمتنا المرضية.
ونحن نعتقد أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع والمعرفة الإسلامية، ونتبنى صحة معظم أحاديث كتابي البخاري ومسلم، ونرى الطعن في الشيخين أو رفض أحاديثهما بالجملة غلطا فاحشا وانحرافا عميقا في التصور.
وإذا كان بعض الناس يجعلون تضعيف قليل من الروايات الموجودة في الصحيحين حماية للآلاف الباقيات، مستلزما للطعن والقدح في الإمامين الكبيرين رضي الله عنهما، فتلك عاهة لا طب لها.
إنهم لا يفهمون، أو لا يريدون الفهم، أن الطعن في بعض روايات الشيخين لا يقتضي القدح في الشخصين ولا في الكتابين.
فقولنا: البخاري ومسلم إمامان كبيران، قدما للأمة خدمة عظيمة عبر الصحيحين، لا يتعارض وقولنا: إن الشيخين جانبا الصواب بروايتهما بعض الأخبار المنكرة.
لماذا نثير هذه القضايا في الإعلام؟
عندما نثير هذه الموضوعات، فإنما نفعل تحصينا للشباب غير الراسخين في علوم الشريعة، ولأن هذه المسائل رائجة في القنوات والمواقع المختصة في مهاجمة الإسلام أو مذهب السنة الذي نتشرف بالانتماء إليه من غير غلو ولا علو.
والذين يعيبون علينا إثارة هذه القضايا، إما أنهم جاهلون بالواقع والهجمة الشرسة على عقول الشباب المسلم، أو أنهم مفرطون في العناد النابع من الإيغال في تقديس الشيخين أو رواة الأحاديث والأخبار.
ولسنا مستعدين لسماع صوت الغافل، بل نحاول إيقاظه بخلخلة عقله، ولسنا بصدد التهيب من ضجيج الجاحد، بل نناضل لنزعزع أوهامه المتراكمة على غير بصيرة.
وعندما نشرنا موضوع: "تنقيح صحيحي البخاري ومسلم ضرورة شرعية"، قابلنا بعض الطيبين بالرفض المطلق، وادعاء خلو الكتابين مما يستدعي المراجعة والنقد.
ثم لما صدمناهم بخرافة الانتحار المخرجة في صحيح البخاري تراجعوا خطوة، وانقسموا إلى أصناف بعضها لا يستحق المناقشة والاحترام لأنهم أهل سباب أو "إرهاب فكري"، وصنفان يستحقان المجاوبة وهما:
الصنف الأول: أقر بضعف أكذوبة الانتحار، لكنه دافع عن رواية الإمام البخاري لها، وتعالم بعضهم علينا فأفادونا أن أحاديث البخاري تنقسم إلى أصول مسندة كلها صحيح، ومعلقات أو بلاغات فيها الضعيف والمليح.
ونقول لهذا الفوج المحترم:
أولا: سبقتكم في مقال: "تنقيح الصحيحين" لذكر أقسام المرويات عند البخاري، وهي أصول وشواهد ومعلقات، فلا تتعالموا علينا لأنكم لا تعرفون إلا النوعين الأول والثالث.
ثانيا: كان بعضكم ينفي وجود الروايات المنكرة والمكذوبة في الصحيحين من غير تفرقة بين الأصول والمعلقات، ثم صرتم تقرون بوجودها في القسم الثاني، وهذا حسن لولا أنكم كنتم تصمتون عن الحق.
ثالثا: إذا كانت الأكذوبة ضعيفة لأنها غير متصلة، فلماذا ألحقها الإمام بحديث مولاتنا عائشة رغم عدم الحاجة لذكرها، ورغم احتمال اغترار الناس بروايتها في الصحيح؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن تشتغلوا بالجواب عليه، وقد رجحت في مقالي أن البخاري يصدقها ولا يستغربها اغترارا برواية الزهري لها، وأضيف هنا أنه رواها عنه بصيغة الجزم، وأسندها إليه عن شيوخه، ولم يشر لضعفها كما فعل بخصوص بعض المعلقات، فلا تدلسوا على القراء بزعمكم أنه صرح بضعفها أو أشار.
وإذا كان صرح أو أشار، فلماذا اغتر إمام كبير كالحافظ الذهبي فذكرها على أنها صحيحة متصلة؟
واستبشع أحد "الكتبة" قولي: إن الحافظ الذهبي أعمته جلالة الصحيح فظن الرواية متصلة صحيحة، وجعل ذلك قدحا مني في الحافظ، وهو تأويل متعسف وفهم منحرف متكلف.
وهل يا صديقي يتلازم عندك انتقاد جزئية صدرت عن إمام حافظ والتوهين من شأنه والحط من قدره؟
إنكم لم تتعودوا على قبول نقد الكبار، أو تستبعدون صدور الأخطاء منهم، لذلك تربطون بين النقد العلمي والإهانة.
وإذا كان الكاتب لا يدري أن هيبة الجامع الصحيح حالت دون جهر الحفاظ بمكنون قلوبهم، فأنا أذكر له أنموذجا من كلام الحافظ الذهبي نفسه ليتعلم ويفهم مبادئ كلامنا:
قال الذهبي في كتاب "ميزان الاعتدال" 2/425 عن "حديث الولي" الذي خرجه البخاري في صحيحه من طريق شيخه خالد بن مخلد: فهذا حديث غريب جدا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن خالد، وذلك لغرابة لفظه ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد، وقد اختلف في عطاء فقيل هو ابن أبي رباح، والصحيح أنه عطاء بن يسار. ه
فما رأيك يا صديقي الآن؟
حديث اجتمعت فيه كل تلك العلل عند الذهبي، والمعايير العلمية تقضي باستنكاره، لكن الحافظ يحجم ويتردد بسبب "هيبة الجامع الصحيح".
وأفيدك أن نفيه الظني وجود الحديث في المسند غلط آخر وتسرع، فالحديث أخرجه الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فخذ كلمتي "الغلط" و"التسرع" واستنتج منهما القدح في الذهبي الذي هو في معتقدنا أعلم المحدثين بالتراجم والرجال، لكنه مع ذلك يخطئ وينسى، فنقبل كثير صوابه، ونرفض يسير أوهامه.
الصنف الثاني: اعترف بضعف الرواية، لكنه استنكر إثارة الموضوع في الإعلام الإلكتروني بحجة الخوف على الدين والسنة النبوية، ولهذا القسم أقول:
أولا: هذا الموضوع شائع في الإعلام المهاجم للدين أو الطائفة، لذلك أدلي برأيي فيه لإنقاذ بعض الشباب الذين قد يرون في طرحي متنفسا ومرشدا، خلافا للمبررين أو المنكرين الذين يزيدون الطين بلة.
ثانيا: لا خوف على الدين إلا من العناد، ولا خشية على السنة الشريفة إلا من تمرير الروايات المنكرات، وتبرير أخطاء العلماء السادات، وتقديس الصحيحين مع كتاب رب العباد.
ثالثا: المنتديات المتخصصة، كالجامعات والمراكز، تحرم فتح موضوع الروايات المعلولة في الصحيحين، وتجرم من يخالف التيار السائد، وتجتهد في التضييق على الباحثين الجريئين وإقصائهم، ولا تقبل شعبنا الدينية تسجيل أي بحث يتصل بنقد أو مراجعة الصحيحين، وأكثر من ذلك، فإن المتخصصين يعتبرون أدنى كلام في متون أو رجال الصحيحين زندقة وخروجا من الدين والمذهب، فكيف تقترحون علينا طرح هذه المواضيع في السجون والقبور الفكرية؟
وإن كذبتم، فالدافع الذي جعلنا نخوض هذه الموضوعات علنا، هو ذلك الكلام الخطير الصادر عن رجل عظيم في قلوبنا، حبيب محترم لدينا، وفي هسبريس نفسها لا في المنتديات الخاصة، فقال حفظه الله في حوار: "صحيح البخاري" نواة للسنة ودعامة لاستقرار المسلمين" عن منتقدي الصحيحين: ( لقد سرى هذا التشويش إلى طوائف أخرى من الحداثيين الذين رددوا شبهات المستشرقين، وطعنوا في بعض أحاديث البخاري بتحامل بَيِّن لا يستند إلى علم صحيح، ولا إلى نقد وجيه. وتسند هذه الطعون في مجملها إما إلى معتقدات مخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة، وإما إلى اتجاهات فكرية بعيدة عن هوية الأمة).
قلت: إن كلام أستاذنا الفاضل والله، لا مداهنة وتقية، يعني بشكل صريح أن الذين يطعنون في (بعض أحاديث البخاري) متحاملون لا غير، وأنهم لا ينتمون لأهل السنة والجماعة، وأن هويتهم مناقضة لهوية الأمة، وهو كلام يتضمن التبديع والتكفير، وما أظن أستاذنا يقصده.
وإن هذا الكلام يهدد استقرار الوطن، ويعين الشيطان على الإخوة فيه وفي الدين، ويباعد بين المثقفين والمتفقهين، ويحرض الحمقى والمغفلين.
ولو قيل في حق من يطعنون في القرآن لقبلناه، أما أن يقال فيمن يشك في أخبار آحادية مروية بالمعنى، دون تفرقة بين القادحين عن علم وإخلاص في حماية العقائد والثوابت الإسلامية، وهم كثير، وبين المخالفين في المذهب وهم معذورون، وبين الأعداء المتربصين، وهم في المغرب غير موجودين، فلا بد أن يستنهض أصوات المعتدلين.
إن المتخصصين هم الذين أخرجوا المعركة إلى الإعلام العمومي، فعليهم أن يتحملوا المسئولية كاملة، حيث وجدنا في المعلقين على حوارهم من يعلن كفره بصحيح البخاري جملة وتفصيلا، ويوغل في الحط من الإمام رضي الله عنه إيغالا.
وعليهم أن يتقبلوا معارضتنا الشديدة للقدح في علم وإيمان الناقمين على بعض أحاديث الشيخين، وأن يعيدوا النظر في رؤيتهم للقضية، وأن يروا تصرفنا عين الوسطية، فنحن ندعو المتخصصين للتخفيف من حدة تقديس اجتهاد الرجال على حساب المبادئ، حتى لا يصدر عنهم مثل ذلك الكلام الذي يهتز منه عرش الرحمن، ونحاول بمنهجنا إقناع الرافضين للصحيحين بأن وجود الروايات الضعيفة والمنكرة لا يبيح لهم الإعراض الكلي عن أحاديثهما، ولا يبرر الهجوم العنيف على الإمامين رضي الله عنهما.
ومن حقنا أن نسأل المتخصصين: لماذا أخرجتم الموضوع إلى العامة ثم تنكرون علينا التأسي بكم؟ أم يجوز لكم ما يحرم علينا لأنكم تمتلكون وصاية على عقول الأمة وقلوبها بتفويض إلهي؟ أم أننا لا نستحق طرق ما تتقنون؟
ثم لماذا ترفضون طرح تلك القضايا في الإعلام إن كنتم واثقين من قوة مواقفكم واختياراتكم؟ ألا يدل انزعاجكم وانفعالكم على هشاشة آرائكم؟
يطرح مخالفكم رأيه، ثم تدحضونه عبر الحجة النقلية أو البراهين العقلية، فيزداد الناس اطمئنانا لتوجهاتكم، وينخنس معارضكم مهزوما. أليس هذا هو المنهج الذي تزعمون أنكم أهله؟
وهنا أضحكني ذلك الكاتب حيث ذكر كتاب حجة الإسلام: "إلجام العوام عن علم الكلام"، قاصدا وصفي بأنني عامي لا أستحق أن أخوض في قضايا شائكة لا يحسنها إلا من وصفهم بالقناعيس، أي العظام.
ونسي المسكين أنه ليس "قنعاسا"، فكان عليه أن يلجم فاه بالخطام، لأن الخوض في "الكلام" ليس من حق العوام، ونسي أيضا أن "القناعيس"، حسب تصوره، قد انقرضوا منذ زمان، فلا يوجد منهم أحد.
وإذا كان شيوخه المتخصصون "قناعيس"، فنحن بفضل الله وكرمه لسنا أقل منهم شأنا.
ثم إن قراء هسبريس وغيرها ليسو من العوام كما تتصور يا صديقي، ونظرتكم العمياء احتقار لعقول الناس واستعلاء عليهم في زمن فشو العلم، بل في القراء من يفوقك ومشايخك "القناعيس" ذكاء وعلما ورسوخا في الدين، لكنكم قوم تستكبرون.
والقضايا الشائكة على المتقدمين، لم تعد خاصة بالمتنورين أمثالكم، بل يدركها المبتدئ قبل المقتصد، لكنكم قوم تجهلون.
ألا وإن العقل البشري تطور عما كان عليه زمن الحفاظ والمجتهدين بشكل هائل، بفضل الكشوفات العلمية وارتفاع سحابة الأمية، حتى أصبح المثقف العادي يميز بين الحديث المقبول، والخبر المرذول، بالفطرة وبدائه العقول.
واقرأ، إن عسر عليك الفهم، قول الله تعالى: (سَنُرِيهِم ءايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
إن هذه الآية تصرح بأن العقل البشري سيزداد، بين عصر النبوة والقيامة، فطنة ونباهة بحيث تتكشف له حقائق القرآن كأنها الشمس.
وتشير الآية إلى أن ذلك الفتح الرباني مشروط بدراسة الآفاق والغوص في أعماق النفس البشرية، وهو مستوى معرفي لم يشم الفقهاء والمحدثون رضي الله عنهم رائحته.
إنه عصرنا وما بعده أيها العقلاء، ستكون البشرية أذكى وأعلم من الذين مضوا، وستفهم كلام ربها وسنة نبينا بسهولة حرموها، وسيظل الجامدون المتعصبون للماضي التليد بإسرائيلياته وتخرصاته، المعرضون عن أنوار العلم وكشوفاته، أغبى الناس ولو حشوا صدورهم بمئات آلاف المتون والأقوال، حاشا كتاب الله المحكم وسنة النبي المعظم.
أيها المحترمون، لقد جاء عصر المتنورين، يضغطون على الزر فتتجلى مرويات الأولين، وأقوال جميع المرحومين، ثم يسلطون عليها عقلهم الجبار، فيقبلون الصائب المختار، ويطرحون العائب المعثار.
التحريف والبتر عاهة مصدرها الجهل والتعصب أو قلة الدين:
صاحب القراءة المتهافتة واحد من الذين يسيئون الفهم ويحرفون القول، ويبترونه من السياق لتشويه أفكاري والتشنيع علي بما لم أقل، وهذه بعض الأمثلة:
أولا: عنون مكتوبه بجملة: (أكاذيب البخاري)، قاصدا اتهامنا بوصف الإمام البخاري بالكذب بناء على أننا سمينا رواية الانتحار أكذوبة، ومتعمدا الإعراض عن تصريحنا المتكرر بأن الإمام مصدق مأمون موثوق.
والباحث الموضوعي يدرك أن رواية المحدث للخبر المكذوب لا يقتضي اتصافه بالكذب، وإلا فجميع أئمة الحديث كذابون، لأن غالب المصنفات الحديثية تشتمل على الروايات المكذوبة، وهذا مقرر مشهور عند صغار الطلبة قبل العلماء.
ثانيا: استنتج الكاتب من مقالي أنني أقصد التوهين من صحيح البخاري، والتنقيص من الإمام نفسه، رغم نفيي المتواتر لذلك، وهو استنتاج لا يخطر إلا على خلد المحرفين الذين يتصيدون العبارات المحتملة، أو المتعصبين العميان الذين يقدسون الأشخاص ويرون أي نقد لجانب من عملهم تنقيصا واحتقارا، وما هكذا يكون العقلاء.
ومعاذ الله أن نتوخى ما ذهب إليه الكاتب غفر الله له، ولو أنصف لذكر للقراء أقوالي الصريحة في إجلال الصحيحين وصاحبيهما، لكنه لم يفعل لحاجة في نفسه، فمما قلته: ( إن مراجعة الصحيحين، على ضوء المعايير الشرعية والعقلية، تؤدي إلى إثبات صحة معظم أحاديثهما وقلة الروايات الواهية فيهما، وفي ذلك تمتين لمنزلة صاحبيهما وتبرئة لهما، بل تلك المراجعة أعظم شكر نتقدم به إليهما رحمهما الله، فالرجلان اجتهدا وقدما للأمة عصارة علميهما، ولم يدعيا خلو كتابيهما من الخطأ، وعلى العلماء والباحثين أن يدرسوا مواضع الانتقاد عليهما بعيدا عن العاطفة والتعصب لمعرفة وجه الحق فيها )
وقلت: ( إن الإمام البخاري عندنا حافظ كبير مصدق مأمون، لكنه كان بشرا يتعرض للنسيان والغفلة، ويسمع الحديث الطويل أحيانا فيسيء فهم بعض معانيه، فإذا تأخر عن كتابته ازدادت نسبة النسيان والخطأ لا محالة، لذلك كان يتصرف في المتون، وينسى أسماء الشخصيات الواردة فيها، ويخطئ في ترجمة ما سمعه أحيانا، ومن قارن بعض رواياته التي سمعها من شيوخه المصنفين كالحميدي صاحب المسند، وقف على نماذج تؤكد بشرية الرجل: نسيانه وخطأه وسوء فهمه للمعنى أحيانا)
وقلت: (وجود أحاديث ضعيفة في الصحيحين لا يؤثر على مصداقيتهما، ولا يزحزح رتبتهما بين كتب السنة الشريفة(
وختمت مقال التنقيح بقولي: (رحم الله الإمامين ورضي عنهما، فقد كانا رجلين عظيمين، خدما السنة الشريفة، وكتاباهما يشتملان على ما يقارب خمسة آلاف حديث، فلو ضعفنا خمسمائة منها، تحصينا للشباب والمثقفين، ما تزحزحت رتبتهما في نفوس الأمة بحال... وأرجو من المعلقين أن يتأدبوا مع الإمامين البخاري ومسلم، فهما بريئان مما قيل في كتابيهما وأحاديثهما من غلو، ومعاذ الله أن نبلغ التراب الذي مشيا عليه في طلب علم النبوة).
فاحكم أيها القارئ المنصف، ثم عند الله تجتمع الخصوم.
ثالثا: قال الصياد الماهر: ( ولم يسلم من تسفيه الكاتب وتبخيسه أحد، فالتابعون رضي الله عنهم "سذج" انطلت عليهم ألاعيب اليهود وحبائلهم، والمتقدمون عموما "أضعف منا عقولا، وأقل ذكاء وفطنة"، ونظرا لهذه السذاجة، فإن عقل الإمام الزهري كان مغيبا أو مفقودا).
قلت: هذا التحريف نوع من الكذب على القراء متعمد، والحق أنني لم أعمم حكم السذاجة على التابعين، بل قلت بالحرف عن مكر اليهود بالمسلمين: (عاشوا بين صغار الصحابة والتابعين، وكانوا يخترعون الروايات الفاسدة، ثم يحدثون بها سذج المسلمين على أنها كلام سيد المرسلين، مستغلين ضعف خبرة الأجيال الأولى بمكر اليهود وطيبوبتهم، بدليل الكم الهائل من الإسرائيليات في كتبنا... وقد استطاع اليهود أن يستغفلوا سذج التابعين، وأن يمرروا عليهم الأخبار المتناقضة، والروايات المشوشة على عقائد الإسلام، ومنها أكذوبة الانتحار الدالة على قدرة تسلط الشيطان واستيلائه المتكرر على وعي المعصوم ).
وعبارة: (سذج المسلمين) أو (سذج التابعين)، تعني عند العارفين بأساليب العرب الحصر والتقييد لا غير، خلافا لصيغة: (المسلمين السذج) فتحتمل التخصيص والتعميم معا. فإن كان الكاتب يميز بين الأساليب فهو مدلس محرف، وإلا فليتعلم لغة العرب قبل أن ينجرف. ثم لماذا لم ينكر وجود الإسرائيليات المنتنة في مرويات التابعين، والتي هي حجتنا على سذاجة بعضهم؟
وكذب الكاتب لما نسب إلي القول بأن عموم المتقدمين أقل منا ذكاء وأضعف عقولا، والحق أنني قصدت الذين صححوا أسطورة الانتحار وروجوها، وهم كذلك شئتم أم أبيتم، ولا تدفعونا لإطلاع القارئ على بعض مهازلهم الدالة بوضوح على أن عقولهم لم تكن بذلك الإشراق الذي ترسخ لدينا عبر المخيال الشعبي.
والذكاء أمر نسبي يتأثر بالبيئة والمستوى المعرفي للمجتمع، وأين عصرنا من عصرهم؟
نعم، كانوا رحمهم الله أعرف بالبيان والبديع، وأحفظ للمتون، وأنقى سريرة وأقوى إيمانا، لكنهم كانوا أقل إدراكا للأشياء وأقرب إلى الفطرة والسذاجة، ولم يكن ذلك نقصا أو عيبا، وبرز من بينهم أولو العقول الجبارة المشرقة، لكنهم كانوا قلة نادرة.
وبخصوص الإمام الزهري، فهو حافظ عصره، لكن عقله كان مغيبا عند ترويجه أكذوبة الانتحار ومثيلاتها، وكان حاضرا حادا فيما سوى ذلك، فكان ماذا؟ وما الداعي للتحريف والزعم بأنني رميت الرجل بغياب عقله على الدوام؟
رابعا: قال صاحب التحريف: (ولم يسلم الحافظ ابن حجر من سهام الكاتب، فوصفه بأنه "مخطئ مقصر في البحث"، واتهمه في منافحته عن الجامع الصحيح بالتعصب المذهبي، لأنه "شافعي على مذهب البخاري"، ونظرا لهذا التعصب، فإنه كثيرا ما "أخطأ في التوجيه والتقدير"، ومن كان هذا وصفه ونعته، فإنه حتما أبعد ما يكون عن الحس النقدي، ولا يستحق أن يتبوأ مكانته المرموقة في علم الحديث، وهو ما أفادنا إياه الكاتب، حيث أجمل علاقة الحافظ ابن حجر بالجامع بقوله : "لكن هيبة الصحيح تعشي الأبصار، وتوقع في الأخطار"، فما الحافظ ابن حجر إلا أعشى يخبط خبط عشواء حسب الكاتب).
قلت: صدق من قال: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
أنتقد جزئية أخطأ فيها الحافظ ابن حجر، وهي دفاعه عن أكذوبة الانتحار رغم اعترافه بضعفها سندا، وأكيل المدح والثناء له في مواضع من مقالي، ثم لا تتقي الله ولا تتخلق بسمت الباحثين المنصفين، فتبتر أقوالي وتنسب إلي ذلك الكلام المخبول.
وأنا مضطر لتذكير القارئ ببعض أقوالي في الحافظ ليعرف نوعية الكاتب وطينته:
قلت في مقال التنقيح: (الحافظ ابن حجر أفضل من استقرأ صحيح البخاري، وها هو يعترف بأن بعض أحاديث الكتاب لم تنضبط لشروط مؤلفه).
وقلت في مقال الانتحار: (والحافظ ابن حجر الذي يشهر اسمه في وجه الباحثين المتحررين، اعترف بوجود الضعيف بمراتب مختلفة عند البخاري، لكنه تكلف في التبرير حينا، ولم ينتبه لروايات شديدة النكارة حينا، وأخطأ في التقدير والتوجيه كثيرا، وكان مدفوعا في كل ذلك بالحفاظ على قداسة الجامع الصحيح التي تقررت قبله، ولم يكن بإمكانه التمرد عليها، وهو شافعي على مذهب البخاري، رحم الله الإمامين).
وقلت بعد تخطئة الحافظ في جزئية مسألة يسيرة: (ونسبة الأخطاء إلى العظماء لا تنقص فضلهم إلا عند الحمقى والمغفلين، ولا تستفز إلا المتعصبين والمعاندين، ولسنا نلتفت إلى هؤلاء وأولئك بل ندعو لهم بالمغفرة وخلق المحسنين).
هذا هو منهجنا، نحترم الأئمة ونعترف بعلمهم الواسع، لكننا لا نقدسهم، بل نقبل صوابهم ولا نتردد في تخطئتهم، وهم السباقون إلى ذلك، فقد نسبوا الأخطاء للصحابة مع الحب والتقدير، ولا شك أن الكاتب ومن على شاكلته يخطئون الكبار الجلة في مسائل قلة، فهل نرميهم بالسوء والزلة؟ كلا وألف كلا.
خامسا: قال الأخ المحترم: (عمد أكثر من مرة إلى تضعيف الحديث بما أسماه "معايير علم النفس"، وذلك لدغدغة عواطف القراء، بدعوى أن حديث البخاري مخالف لما عليه العلوم الإنسانية، ثم يبين لهم أن العلماء مجرد جماعة من الكذابين، وأنه الصادق في قوله وبحثه، فقال : "فلا تكذبوا على الأمة، وتزعموا أن أقوال المتقدمين هي المعتمد").
اللهم إني أبرأ إليك مما استنبطه الكاتب الألمعي وأشكوك، فما دار بخلدي أن أصف العلماء بالكذب، وما زكيت نفسي وشهدت لها بالصدق، وما وجهت الجملة المبتورة من سياقها إلا لأنصاف العلماء المتعصبين الذين يزعمون أن الأئمة السابقين ما كانوا يخطئون أو يتقاعسون عن التحقيق في بعض الأحيان، والكذب في مثل هذا المساق يعني الخطأ والمبالغة كما يدري أهل الفهم، لكن الجاهل بمعنى "الفترة" أنى له أن يفهم، والمتصيد للهفوات أنى له أن يعلم.
سادسا: جاء في المقال المتهافت: (أورد الكاتب أن فترة الوحي بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم راحة وفسحة، وهذا مخالف للواقع، لأنه في بداية أمره كانت هناك صعوبات في اتصال بشرية النبي بالوحي المرتبط بالألوهية، لذلك كان النبي يرتجف ويقول "زملوني زملوني"، والوحي الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم وصفه رب العزة بقوله : "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، ولم يقل : سنلقي عليك فسحة وراحة كما ادعى الكاتب الموقر، لذلك كان يأتيه الوحي بطرق متعددة، منها صلصلة الجرس وهو أشده عليه كما صرح بذلك صلوات ربي وسلامه عليه، ومع ذلك يقول الكاتب إنه كان فسحة !! وكان يتلقى الوحي فيتصبب عرقا في اليوم الشديد البرد، وأنا لا أعرف الفسحة هكذا ).
ولك أن تضحك أيها القارئ الآن من مستوى كاتب يوحي لنا أنه من "البزل القناعيس"، فقد فهم من عبارة "فترة الوحي" الواردة في مقالي أنها تعني لحظة نزول الوحي، والمبتدئ يفهم من السياق أنها تعني "فتور الوحي" أي توقفه وانقطاعه، والفترة تأتي في لغة العرب بمعنى الفتور.
وأحمد الله أن الكاتب أيد كلامي من حيث لا يدري، فقد صرحت أن انقطاع الوحي كان راحة وفسحة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما دام كذلك، فلا يعقل أن يفكر في الانتحار بله الإقدام عليه.
وصاحبنا ذكر ما يدل على الشدة التي كانت تعتري مولانا النبي عند نزول الوحي، فشهد ضمنيا بأن الفترة راحة وفسحة.
فأرجو أن يتعلم مبادئ العربية، وأن ينظر في كلام الناس بالبراءة حتى يبصر جيدا ويقي نفسه المهاوي الردية.
سابعا: قال البتار: (أما البدر العيني شارح البخاري فهو في نظر الكاتب صاحب "الفهم السقيم"، ولم يسلم الحافظ ابن حجر من سهام الكاتب، فوصفه بأنه "مخطئ مقصر في البحث" ).
قلت: سيفهم القارئ أنني أعتبر الحافظ العيني صاحب فهم سقيم دائما، وأن الحافظ ابن حجر مخطئ في كل اجتهاداته مقصر في كل أبحاثه.
ومعاذ الله أن نطلق تلك الأوصاف الدالة على اللزوم والاستمرار، وصاحبنا مخادع في هذه الجزئية محتال، فالفهم السقيم مقيد بتفسير العيني لقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك) بالإقدام على الانتحار، وابن حجر مخطئ ومقصر في كلامه عن بلاغ الزهري فقط، وهذه عباراتي النقية أذكرها للقلوب السنية:
قلت عن الأول: (العيني رحمه الله يضعف السند لأنه منقطع، ويجعل البلاغ لمعمر بن راشد، لكنه لا يقنع، بل راح يقوي المتن بالفهم السقيم لقوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك)، وتعني لعلك مهلك نفسك، فتكون الآية في نظره شاهدة لمضمون خرافة الزهري، وهذا تحريف غير مقصود لكلام الله وقع فيه العيني وغيره).
فترى نقدا موضعيا مقرونا بالترحم والتبرئة من تعمد التحريف، لكن الكاتب يتقن التجديف.
وقلت عن الثاني: (زعم أن معمر بن راشد متفرد برواية البلاغ عن الزهري دون عقيل ويونس، وهو مخطئ مقصر في البحث، فمعمر لم يتفرد برواية البلاغ عن الزهري، بل تابعه عقيل عند ابن منده في الإيمان2/693 ، ويونس عند الدولابي في الذرية الطاهرة1/33، وأبي عوانة في المستخرج1/102/328 وابن منده في الإيمان2/689، وتابعهم سفيان وابن ثور كما سلف. ونسبة الأخطاء إلى العظماء لا تنقص فضلهم إلا عند الحمقى والمغفلين...)
فانظر أيها القارئ إلى تقييد تقصير الحافظ بجزئية بسيطة، والختم بأنه من العظماء وإن صدرت منه الغلطة، وتأمل تصرف الكاتب القريب من الخطيئة.
ثم اسأله: هل أخطأ العيني في تفسير الآية؟ وهل قصر ابن حجر في جمع طرق بلاغ الزهري؟
فإن أقر بذلك، فاسأله ماذا يسمى كل ذلك؟ أليس فهما سقيما ضعيفا فاسدا، وتقصيرا في البحث؟
وهناك نماذج إضافية للتحريف والبتر المتعمدين، فيكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
مناقشة الهوامش وإهمال الجواهر آفة المتعصب الخائر:
إذا كانت الفكرة قوية متماسكة، وكان الخصم صاحب هوى وجحود، أو جاهلا بموضوع النقاش، فإنه يشتغل بالجزئيات والهوامش، ويعرض عن صلب الموضوع ويتحاشى الأسئلة المركزية.
وهذا ما سلكه صاحب المقالة المتهافتة، فإنه عجز عن مناقشة أدلتنا ونتائج بحثنا المركزية، واشتغل بقوة أسلوبنا في النقد إلى حد القسوة، وهي قسوة متعمدة، هدفها إيقاظ الغافلين وتنبيه السادرين.
وكان على صديقنا أن يشتغل بالإجابة على هذه الإشكالات المحورية، نذكره بها منتظرين "حنة يده":
هل كل الروايات المخرجة في الصحيحين ثابتة سندا ومتنا؟ أم توجد فيهما روايات ضعيفة؟ وهل يصح اعتبارهما فوق النقد والمراجعة؟ وما رأيه في المساواة بين القرآن والكتابين؟ وهل يتناقض خبر الانتحار مع الآيات النافية لتسلط الشيطان على الأنبياء؟ وهل يؤدي إثباته إلى اتهام النبي بالجنون عند محاولة التردي؟ ثم ألا يتضمن بلاغ الزهري سوء الأدب مع الله والإساءة لجبريل عليه السلام؟ وهل تلك الزيادة الضعيفة منكرة حسب قواعد الحديث لأنها تخالف الروايات الصحيحة؟ وهل وقع الاضطراب الموجب للبطلان في روايات الزهري للأكذوبة؟
أرنا قدراتك العقلية والعلمية في حل هذه المعضلات، أما التفتيش عن زلة هنا أو هفوة هناك، فكل الناس تحسنه يا فتى.
كثرة الأخطاء العلمية ثمرة الجحود والعصبية، ونتيجة الخوض قبل التحقيق والبحث العميق:
وقع الكاتب "القنعاس" في جملة أخطاء علمية، سببها التقليد وتقديس كلام المتقدمين، أو التسرع في الحكم قبل التأمل والتمحيص، وإليك أولاها بالذكر فإنها كثيرة حيثما نظرت في مقالته:
الخطأ الأول: قال الكاتب عن أسطورة الانتحار: (هذه الرواية لم يقل أحد بصحتها، لأنها مفتقرة إلى شرط أساس من شروط الصحة، وهو اتصال السند، وتضمين البخاري لها في مصنفه لا يقدح فيه، كما أنه لم يلتزم بالصحة إلا في المسند المتصل، أما البلاغات والمعلقات فلم يدّع ذلك، ولم يلتزم به، فماذا اكتشف الكاتب حتى يتطاول ويتعالم).
قلت: إن الإمام البخاري لم يوضح منهجه في الصحيح، والتفرقة بين الأصول والشواهد والمعلقات حادثة بعده، أي أن المحدثين بعد البخاري هم الذين زعموا أنه لا يشترط الصحة إلا فيما سموه أصولا بالاستقراء لا بالتنصيص من المؤلف رحمه الله.
ثم زعموا أن المعلقات بصيغة الجزم صحيحة عند البخاري بخلاف المروية بصيغة التمريض، لكن الحافظ ابن حجر نسف ذلك ونبه إلى وجود الضعيف في المعلق جزما، والصحيح في الممرض.
وما دام الإمام ذكر الروايات المعلقة الضعيفة ولم يصرح بضعفها، بل أوردها مستأنسا ومستشهدا، فإن إطلاق الصحة على كل رواياته كذبة كبرى، وادعاء تلقي الأمة لها بالقبول فرية عظمى.
الخطأ الثاني: قال الرجل: (تقرر أن الحديث المتواتر مقطوع به، أما الحديث الصحيح فلا يفيد إلا الظن الراجح، وكلما تدنى الحديث في الصحة كلما نقص الظن، ومن ذلك قرر العلماء أن الحديث الضعيف – ومنه حديثنا هذا – غير مقطوع بكذبه وبطلانه).
وهنا أغلاط فاحشة يجل عنهما من تخرج في دار الحديث الحسنية، إليك البيان:
أولا: جعل الحديث المتواتر، أي الذي روته جماعة كبيرة عن جماعة، قسما مغايرا للحديث الصحيح، والذي يعرفه المبتدئون هو أن المتواتر نوع من الصحيح، والقسم المغاير له هو حديث الآحاد الذي يرويه فرد أو أفراد قليلون، وحديث الآحاد يتنوع إلى صحيح وحسن وضعيف، والموضوع شر أنواع الضعيف.
ثانيا: قوله (وكلما تدنى الحديث في الصحة كلما نقص الظن) خطأ قبيح، واللازم أن يقول: (...كلما ازداد الظن)، لأن النزول من أعلى درجات الصحة نحو الأدنى يزيد نسبة الظن والشك في ثبوت الحديث وليس ينقصها يا جدع.
ثالثا: قوله رحمه الله: ( قرر العلماء أن الحديث الضعيف – ومنه حديثنا هذا – غير مقطوع بكذبه وبطلانه) منقوص أعرج، إذ الحديث الضعيف الذي لا يقطع المحدثون بكذبه وبطلانه، هو الذي لا يقترن بمناقضة القرآن أو السنة الصحيحة أو العقل والحس...
فإذا ناقض شيئا من ذلك، فبطلانه مقطوع به اتفاقا، ولا يختلفون إلا عند التطبيق.
وحديث الانتحار ضعيف من جهة السند، مناقض للقرآن والسنة والعقل والعلم معا، فهو باطل وكذب ولو حالت هيبة الصحيح دون حكم المتقدمين عليه بذلك، لأننا ملزمون بالقواعد لا بأمزجة العلماء.
وراجع مقالي لتعرف وجوه التناقض، ثم رد عليها واحدا واحدا بما ينسفها، وإلا فالزم تخصصك.
الخطأ الثالث: قال صاحبي غفر الله لنا وله: (...كثير من العقلاء من المفكرين والأطر السامية في أكثر من قطر ودولة أقدموا على الانتحار لسبب من الأسباب، وهذا وحده دليل في نقض مقولته، وأن الانتحار ليس مرتبطا بالحمق والجنون).
قلت: عبارة (من العقلاء من المفكرين) ثم صيغة: (دليل في نقض مقولته) أسلوبان ركيكان عند العارفين بالأدب، والركاكة تدل على هشاشة المستوى البياني لدى الكاتب، والهشاشة أمارة سوء إدراك الكلام الفصيح، فلا تعجب إذا وجدت صاحبنا يستخرج من كلامي تلك المعاني المظلمة.
ليس هذا المقصود، بل ذكرنا كلامه الدال على جهله بأن المقدم على الانتحار يكون لحظة التنفيذ مجنونا أحمق، والجنون أو الحمق يطلقان في اللغة والعرف على فقدان العقل حال اليقظة، ولا يكون المبادر لقتل نفسه عاقلا بأي حال من الأحوال، فاسأل علماء النفس والأمراض العصبية ثم تعال.
والمفكرون أو الأطر المنتحرون، لم يفعلوا إلا بعد فقدان العقل، وهم قلة لا كثرة كما هول ونفخ الكاتب، والنتيجة أن الانتحار والجنون متلازمان مترابطان.
الخطأ الرابع: قال العاقل: ( حاول الكاتب أن يبين التناقض الواقع بين حديث جابر وبلاغ الزهري، وذلك لأن الأول ليست فيه أي إشارة لحزن النبي بسبب انقطاع الوحي، كما لا يتضمن التفكير في الانتحار أو محاولته، وهذا تناقض متوهم، لأن التناقض لا يثبت إلا إذا تم التصريح في حديث جابر بفرح النبي وسروره، وبما أنه لم ينص لا على الفرح ولا على الحزن، فإنه لا تناقض ألبتة، لذا كان بلاغ الزهري متضمنا لزيادة على حديث جابر، وليس متناقضا معه).
أنصحك يا صديقي أن تستشير شيوخك العارفين بمصطلح الحديث قبل أن تعرض نفسك للمهزلة، وهذا التعليم والتذكير يأتيك مني هرولة:
أولا: اعترفت بضعف سند بلاغ الإمام الزهري، وأقررت بأن الإقدام على الانتحار زيادة لا وجود لها في حديث جابر رضي الله عنه، أليس كذلك؟
إذا كان كذلك، فقد تقرر عند المحدثين أن الزيادة التي ترد في الطريق الضعيف تسمى منكرة، والمنكر من قسم الواهي الذي اشتد ضعفه، فتكون زيادة الإقدام على الانتحار واهية ساقطة.
هذا إذا لم تكن الزيادة مناقضة للقطعيات النقلية والعقلية، وإلا فهي موضوعة مكذوبة بلا مثنوية، فحقق ثم لا تشفق.
والغريب أنني نبهت إلى هذه المعاني لكن الكاتب لم يستوعب، فيبدو أنه ما درس علم المصطلح جيدا، أو لعله نسي فلا لوم عليه إذا تذكر من جديد.
ثانيا: أخفيت عن القارئ أوجه التناقض بين بلاغ الزهري وحديث سيدنا جابر، وهذا تدليس قبيح يطعن مصداقية الكاتب المليح، وأنا مضطر لتذكيرك وتنبيه القراء للتناقض الصريح:
تضمن حديث جابر أن تجلي جبريل للنبي عليهما السلام كان مرة واحدة، وكان النبي في مكة بعد نزوله من حراء، أما بلاغ الزهري المكذوب فيخبرنا أن التجلي تكرر مرارا، وكان يحدث في قمم الجبال عندما يهدد النبي، حاشاه، بالانتحار.
ودل حديث جابر على أن النبي فزع من صورة جبريل حتى هوى إلى الأرض، بينما يصرح بلاغ الزهري أن النبي كان مطمئنا ثابتا كلما تبدى له جبريل.
وصرح حديث جابر أن فتور الوحي كان مرة واحدة قصيرة، أما بلاغ الزهري فيزعم أن فترة الوحي تكررت، وكانت تطول كل مرة. فهل هذه تناقضات أم لا؟ وهل تحاشيك لذكرها تدليس وخداع للقراء؟
الخطأ الخامس: قال صديقنا: (الهم بالانتحار والإقدام عليه لم يكن معصية محرمة حينها، حيث لم يوجد نص محرم في تلك الفترة، وقرر العلماء أنه لا تحريم إلا بنص، فهل هناك نص قرآني في سورة العلق أو غيرها من الآيات التي نزلت حينئذ يحرم الانتحار؟ ومن ادعى تحريم الانتحار في تلك الفترة فعليه بالدليل. ومثال ذلك تحريم التبني الذي ورد متأخرا، وكان قبل ذلك النبي متبنيا زيدا، فهل يعتبر النبي عاصيا )
قلت: هذا موضع آخر من مواضع التدليس والغدر، فقد أجبت على هذا الاعتراض المعتوه، لكن الكاتب يتعمد التجاهل، لأنه عاجز عن إبطال مضمون كلامي، فقد قلت بالحرف عند مناقشة كلام العيني رحمه الله: ( وأتفه منه خرافة عدم ورود تحريم الانتحار قبل فترة الوحي، فإن الأنبياء معصومون من الإقدام على التصرفات الجنونية قبل البعثة وبعدها، وإن حصرتم ذلك بما بعد البعثة، فنبينا كان مبعوثا منذ نزول سورة العلق، أي قبل التفكير المزعوم المكذوب ).
وأضيف هنا: محل النقاش هو إمكان إقدام نبي مبعوث على الانتحار، وهل يقتضي ذلك وجود الاختلال العقلي الذي يتنزه عنه الأنبياء؟ وليس موضوعنا هل كان الانتحار محرما أم لا؟ فلماذا تتهربون من محل النزاع؟
ثم إن الانتحار مستقبح بالفطرة كالقتل والزنا والسرقة، ومحرم في كل الشرائع السماوية السابقة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة سليم الفطرة، عالما بتحريم الانتحار في شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كعلمه بوحدانية الله وقداسة البيت الحرام ومعرفته بالحج والعمرة، فلم يكن بحاجة لنهيه عن قتل نفسه في أوائل السور نزولا.
وإذا لم يكن الانتحار محرما كما تدعون، فهل كان حلالا هو والقتل والسرقة والظلم بكل أنواعه؟
وتشبيه الانتحار بالتبني لا يصدر عن عاقل، إذ شتان بين ما تنكره كل العقول، بل تستقبحه الضباع والفيول، وبين ما تراه بدائه العقول خيرا وصلاحا لولا ورود الشريعة بتحريمه.
ولست أدري هل يقبل صاحبنا تشبيه القتل والاغتصاب بالتبني أيضا، فيزعم أنهما لم يكونا محرمين فيشبهانه.
الخطأ السادس: يبدو أن صاحبنا متأثر بخرافات بني إسرائيل، فقد قال: ( الانتحار كان في شرع من قبلنا، بل كان وسيلة للتوبة عند بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل،" فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ"، لذلك كان عَدُّ قتل النفس من باب تسلط الشيطان أو الجنون، مجرد كلام لا عبرة به).
ولو توقف الأمر عند التأثر بالإسرائيليات لهان الخطب، لكن الكاتب يتجرأ على كلام الله فيفسره بظاهره، وللمفسرين أقوال في الآية:
الأول: ليقتل المطيع المجرم منكم، وهذا تنفيذ لحكم وليس انتحارا.
الثاني: افعلوا بأنفسكم ما يشبه القتل وهو الندم والحسرة والتوبة، فالتعبير مجازي، وهو الصواب والحق.
الثالث: اقتلوا بعضكم بعضا، ففعلوا حتى قتل منهم سبعون ألفا، ثم نزلت التوبة فنجا الباقون، وهذا ليس انتحارا من جهة بل تقاتل، ثم هو خرافة إسرائيلية من ناحية ثانية، وما كان اليهود يصلون هذا العدد زمن موسى عليه السلام، فهي رواية منقوضة عقلا، منكرة نقلا، ومحال أن يرضى الله تلك المجزرة.
فلماذا اختار الكاتب التفسير الإسرائيلي المعتوه؟
إنه رد كلامي ولو بالخرافات والأساطير، ومن غير تريث في تفسير كلام الله القدير.
الخطأ السابع: قال: ( على فرض تحريم الانتحار في تلك الفترة، فإن النبي لم يفعل، بل همّ بالفعل، والهمّ لا يخدش العصمة، والأنبياء غير مؤاخذين به، لذلك همّ يوسف بالمعصية تحقيقا لبشريته، لولا أن رأى برهان ربه، فلم يفعل تحقيقا لعصمته ونبوته ).
قلت: بلاغ الزهري يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى قمم الجبال أكثر من مرة، وفي اللحظة التي يقرر فيها التردي كان جبريل يتجلى له، فهل هذا هم ونية أم هو تنفيذ قناعة راسخة؟
حاشا رسول الله من ذلك.
وتشبيه أسطورة الانتحار بقصة سيدنا يوسف قياس مع الفارق، فسيدنا يوسف كان شابا مراهقا لم يبعث بعد، وقد هم ونوى لمرة وحيدة، أما مولانا النبي فكان راشدا مبعوثا، ولم ينو بل شرع في التنفيذ، ولم يفعل ذلك مرة واحدة بل مرات ومرات، هذا ما تقوله الرواية المكذوبة، والكاتب يظن النبوة ألعوبة.
- خريج دار الحديث الحسنية

الأحد، 24 مايو 2015

تجريح صحيح البخاري ..اقلام متهافتة


أكاذيب البخاري .. قراءة متهافتة
نظمت إحدى الهيآت ندوة علمية بمدينة العرائش حول الجامع الصحيح للإمام البخاري رضي الله عنه، فأثارت بذلك حفيظة أحد الكتبة، فدبج إلى حين كتابة هذه السطور مقالين اثنين، آخرهما بعنوان محاولة انتحار المعصوم، أكذوبة في صحيح البخاري، حاول من خلاله التوهين من مكانة الجامع الصحيح، وتذرع لذلك بعدة وسائل، ثم عرّج على قضية من قضايا السيرة، وهي هَمُّ النبي صلى الله عليه وسلم بالانتحار في بداية البعثة، وهو ما سنتناوله من خلال الملاحظات واللمع الآتية :
** قراءة التراث :
لا يكاد ينكر عاقل ضرورة إعادة قراءة تراثنا قراءة متأنية فاحصة، وهو ما نتبناه وندعو إليه، ونثمنه إن صدر من ذويه وأربابه، بشرط مراعاة السياق المنهجي العام، وهو إيثار الحديث عن ذلك في اللقاءات الخاصة، دون نثره ونشره بين العامة، وقد وقع في تاريخنا تناول القضايا الكلامية في شتى المجالس، وهو ما كان يشوش على البعض، فنبههم مفخرة الأمة الإمام الغزالي رضي الله عنه إلى ضرورة [إلجام العوام، عن علم الكلام]، لأنه مبحث تخصصي، وهو ما لم ينتبه إليه صاحب المقال المذكور، حيث تناول فيه قضايا تخصصية دقيقة، مثل المعضل والمقطوع والبلاغ وغير ذلك مما لا يتقنه إلا ذوو الاختصاص.
** تبخيس الآخر :
عمد الكاتب من خلال مقاله إلى تبخيس أي شخص يخالفه في رأيه، ولا يحط من قيمة الجامع الصحيح، ولو تناولنا مقاله وقمنا بدراسته دراسة معجمية، لتبين لنا بالملموس صحة ما نقول، لذلك تجده يغمز في قناة مخالفيه فيسميهم أحيانا "مقدسو الصحيحين"، وأحيانا "متعصبة البخاري"، و"السذج"، وأن العلماء "يهرفون بما لا يعرفون"، وأنهم لا يمارسون البحث والدراسة إلا انطلاقا من "العاطفة والتعصب"، وينافحون عن الجامع الصحيح اعتمادا على "التبريرات السفيهة"، بل إنهم آثروا الجامع الصحيح ومكانته، وقدموه على مقام النبوة "فداسوا عصمة النبي"، وإذا عارضهم معترض ألصقوا به "التهم الخرقاء".
ولم يسلم من تسفيه الكاتب وتبخيسه أحد، فالتابعون رضي الله عنهم "سذج" انطلت عليهم ألاعيب اليهود وحبائلهم، والمتقدمون عموما "أضعف منا عقولا، وأقل ذكاء وفطنة"، ونظرا لهذه السذاجة، فإن عقل الإمام الزهري كان مغيبا أو مفقودا، لذلك تجده يسأل : "فأين كان عقله ؟".
ثم استرسل الكاتب في إطلاق الكلام غير العلمي في موضوع يجب أن يرقى صاحبه إلى أعلى درجات العلمية، فقال عن الإمام الذهبي : "أعْمَت جلالة الصحيح هذا الإمام"، أما البدر العيني شارح البخاري فهو في نظر الكاتب صاحب "الفهم السقيم"، ولم يسلم الحافظ ابن حجر من سهام الكاتب، فوصفه بأنه "مخطئ مقصر في البحث"، واتهمه في منافحته عن الجامع الصحيح بالتعصب المذهبي، لأنه "شافعي على مذهب البخاري"، ونظرا لهذا التعصب، فإنه كثيرا ما "أخطأ في التوجيه والتقدير"، ومن كان هذا وصفه ونعته، فإنه حتما أبعد ما يكون عن الحس النقدي، ولا يستحق أن يتبوأ مكانته المرموقة في علم الحديث، وهو ما أفادنا إياه الكاتب، حيث أجمل علاقة الحافظ ابن حجر بالجامع بقوله : "لكن هيبة الصحيح تعشي الأبصار، وتوقع في الأخطار"، فما الحافظ ابن حجر إلا أعشى يخبط خبط عشواء حسب الكاتب.
هذه بعض عبارات الكاتب وإطلاقاته، كان الهدف منها تبخيس كل مخالف واستصغاره، حتى إذا خَلا له الجو، فإنه سيتوجه إلى الإمام البخاري بمدفعيته الثقيلة، وهو ما فعل.
** البخاري : الإمام والكتاب.
أ - من هو الإمام البخاري ؟
لا يكاد يذكر المنصفون الإمام البخاري إلا بأوصاف الإجلال والإكبار، نظرا لجهوده في خدمة الدين الإسلامي عموما، وخدمة السنة المطهرة على وجه الخصوص، فهو إمام هذا الفن بلا منازع، وله تتلمذ الخلَف أجمع، ونظرا لدقته وتحريه، بل وتشدده في ذلك، أعطت الأمة لجامعه مكانته اللائقة به، فاعتنى العلماء به على مر الدهور، حفظا ورواية ونسخا وتلخيصا وتدريسا وشرحا، وشُدّت لذلك الرحال إلى أقاصي البلدان، ومن عظيم العناية به، أن كثيرا من النساخ كانوا يعمدون إلى تجميل نسخه وإيلائها مزيدا من الرعاية والاهتمام، كما يظهر من خلال المخطوطات المتوافرة في المكتبات العامة والخاصة.
هذه العناية الفائقة، أراد كاتب المقال أن يهدمها من نفوس عامة القراء ببضع كلمات، فقال عن الإمام المصنِّف أنه "بشر يخطئ ويقلد ويغتر مهما كابرتم"، وبالتأمل في هذه العبارة، نجده ينص على بشرية الإمام، فهل قال أحد من الأمة بنقيض ذلك ؟ وأي جديد جاء به الكاتب غير تسويد الورق ؟ أم أن المراد والغرض من العبارة هو وصف إجلال البخاري وإكباره مكابرة ليس إلا ؟
وبما أن التكرار يؤدي إلى الاستقرار، فلم يجد الكاتب بدا من تكرار ما يفيد بشرية الإمام، فقال عنه : "البخاري يسمع الحديث الطويل، فيسيء فهْمَ بعض معانيه"، ثم إنه "كان بشرا، يتعرض للنسيان"، وهناك "نماذج تؤكد بشرية الرجل : نسيانه وخطأه وسوء فهمه للمعنى"، ولو طرحنا على القارئ العادي سؤالا عن الإمام البخاري بعد قراءته لهذا المقال، لما تعدى جوابه الآتي : [البخاري بشر، سيء الفهم]، ولن يزيد عن هذا الحد.
وللإيغال في التنقيص من مقام الإمام البخاري، حاول الكاتب إيهام القراء أن الإمام يعظم سلاطين بني أمية أكثر من تعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال : "ألم يكن مقام النبوة أولى بالصيانة من منزلتي معاوية ومروان ؟"، وذلك لأن الإمام أبهم اسميهما في بعض الروايات، وأورد رواية من بلاغات الزهري تتضمن همّ النبي بالانتحار.
ب - الجامع الصحيح :
وإذا تمكن الكاتب من نسف شخصية البخاري، وإظهاره مظهر الشخص العادي الذي لم يأل جهدا في تنقية السنة وخدمتها، فإنه يلتفت إلى الجامع الصحيح، فيؤكد أنه مليء بالأكاذيب، ينقدح ذلك في ذهن القارئ منذ العنوان "أكذوبة في صحيح البخاري"، وكرر في ثنايا المقال عبارة "الأكذوبة" و"الخرافة" مرات عديدة، والهدف من هذا القصف اللغوي المتكرر تبخيس الجامع الصحيح والحط من قدره واستقرار ذلك في نفسية القارئ، ليبين أن المصنَّف مليئ بـ"العيوب"، و"أنه محشو بمائات المعلقات والبلاغات الضعيفة، ويختصر المتون"، ولم يكن الجامع الصحيح بهذه المثابة إلا لأن الإمام التزم "الأمانة العلمية الساذجة"، ثم يطرح سؤالا إنكاريا : [هل يصح أنه استفرغ كل جهده في دراسة مرويات صحيحه سندا ومتنا ؟]، وهو سؤال يُفهمنا من خلاله الكاتب أن البخاري لم يكن متحريا ولا دقيقا، وأن تصنيفه للجامع كان فسحة وترفا فكريا ليس إلا، لذا لا يمكن أن يحظى بما يحظى به عند العامة والخاصة، ولأن الكاتب يؤمن بنظرية القصف اللغوي وأهميتها، فإنه يكرر السؤال في موضع آخر بقوله : [فهل تزعمون بعد الآن أنه كان يدقق في كل رواياته ؟].
هذه عبارات الكاتب، أوردتها بنصها دون زيادة أو نقص، لكيلا أفتري عليه أو أُتَّهَمَ بسوء الفهم مثل ما اتُّهِم به الإمام البخاري، وهي كلمات وعبارات تدل على بُعد صاحبها عن ميدان البحث العلمي ومناهجه، مع أنه يطرق مبحثا لا يستطيع ولوج رحابه إلا البزْل القناعيس.
** استمالة القارئ :
قد يفلح الكاتب في ترسيخ بعض مقولاته في أذهان القارئ، لكن بعض القراء قد يشمئزون من بعض عباراته التي أوردت بعضها، لذا، تجده مضطرا لإقناعهم بأي وسيلة ولو بعدت عن مناهج العلم، فتجده يتوسل بالقسم واليمين، فيقول : "وهذه آيات تجعلنا نقسم بأغلظ الأيمان أن تلك الرواية كذب وبهتان"، ثم يقسم ثانية بقوله : "كلا ورب الكعبة"، فأي منهج علمي هذا ؟ لقد عهدت من الباحثين أن ينتصروا لوجهات نظرهم بالدليل والبرهان، ولم أعهدهم يفرضون رأيهم بالقسَم والأيمان.
ثم عمد أكثر من مرة إلى تضعيف الحديث بما أسماه "معايير علم النفس"، وذلك لدغدغة عواطف القراء، بدعوى أن حديث البخاري مخالف لما عليه العلوم الإنسانية، ثم يبين لهم أن العلماء مجرد جماعة من الكذابين، وأنه الصادق في قوله وبحثه، فقال : "فلا تكذبوا على الأمة، وتزعموا أن أقوال المتقدمين هي المعتمد"، ولكي ينفر القارئ البسيط من رواية الزهري وصفها بأن مضمونها "مضمون شيطاني"، وهي عبارة يحاول من خلالها التأثير على القارئ ليس إلا، حتى إذا حقق بغيته، استعرض عضلاته على القراء بقوله : "فتسقط الرواية علميا ولو خرجها البخاري بسند نظيف، لأن القاعدة الحديثية تقول : إذا خالف الحديث صريح المعقول، أي العلم والعقل، فهو منكر مرذول. ومن نسب نفسه إلى معرفة علوم الحديث والأصول، ثم أنكر وجود هذه القاعدة، فهو كذاب أو معاند جهول، يحسن به أن يعلف الفول والبقول".
آه على [الفول والبقول] والجامع الصحيح كيف اجتمعا واقترنا !!
وبما أنه لا يوجد من يعارض هذه القاعدة، فإن كلام الكاتب لا يعدو أن يكون جهادا في غير عدو.
** الاستعلاء :
لم يعمد الكاتب إلى تبخيس مخالفيه، إلا لاعتداد بنفسه، وتضخيم لأناته، ومن كان كذلك، فإنه لا يجد غضاضة إلى تسفيه غيره، ووصفهم بأنهم "السذج" حقيقة لا مبالغة، ومن وصف غيره بهكذا أوصاف، فمن يكون هو ؟ لا جرم أنه من أعقل عقلاء الأمة، وهو ما صرح به حين قال : "وإذا لم تكن لكم رغبة في تحرير عقولكم من وهم عصمة أحاديث البخاري، فالعقلاء [والكاتب منهم لا محالة] غير مستعدين لمجاراتكم في الحماقة والهبل".
وإذا كان الكاتب بهذه المكانة السامقة المرموقة، فلا غرو أن ينبه القراء إلى السذج الذين يعطلون عقولهم ولا يستعملونها، ومنهم الإمام الذهبي رحمه الله تعالى الذي قال في شأنه : "ولو استعمل جزءا ضئيلا من عقله، لرأى استحالة .."، هنا بلغ التعالم والاستعلاء منتهاه.
** همّ النبي بالانتحار :
روى الإمام البخاري في كتاب التعبير عن الإمام الزهري بلاغا و"فَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنَا، حُزْنًا، غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ".
وهذه الرواية لم يقل أحد بصحتها، لأنها مفتقرة إلى شرط أساس من شروط الصحة، وهو اتصال السند، وتضمين البخاري لها في مصنفه لا يقدح فيه، كما أنه لم يلتزم بالصحة إلا في المسند المتصل، أما البلاغات والمعلقات فلم يدّع ذلك، ولم يلتزم به، فماذا اكتشف الكاتب حتى يتطاول ويتعالم ؟
حديث بدء الوحي رواه المصنفون عن أمنا عائشة رضي الله عنها وعن سيدنا جابر، والأول أدرج فيه المصنفون ومنهم البخاري بلاغ الزهري، وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث شرحا وتعليقا، بل أفردهما بالتصنيف أبو شامة المقدسي رحمه الله في "شرح الحديث المقتفى، في مبعث النبي المصطفى"، فهل همّ النبي فعلا بالانتحار ؟
لم يثبت ذلك عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح المتصل، لذلك لا يمكن الجزم به، ولكن، هل نجزم ببطلانه وكذبه ؟
تقرر أن الحديث المتواتر مقطوع به، أما الحديث الصحيح فلا يفيد إلا الظن الراجح، وكلما تدنى الحديث في الصحة كلما نقص الظن، ومن ذلك قرر العلماء أن الحديث الضعيف – ومنه حديثنا هذا – غير مقطوع بكذبه وبطلانه، فبنى الفقهاء كثيرا من الأحكام الفقهية على أحاديث ضعيفة، ولم يشذ منهم في هذا التوجه إلا قلة قليلة من العلماء، لكنهم خالفوا الجمهور على مستوى التنظير، أما على مستوى التطبيق فإنهم اعتمدوا على الحديث الضعيف في أكثر من موضع، لذا نقرر مطمئنين أن العمل بالضعيف وقع عليه الإجماع العملي.
وإذا تقرر أن همّ النبي بالانتحار ضعيف غير موضوع ولا مكذوب، فيحق لنا أن نتساءل، هل ذلك من قبيل الممكن والجائز ؟ أم أنه مستحيل في حق النبي لانتفائه مع العصمة ؟
لم يتردد الكاتب في أن ذلك محال في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وتناول ذلك من خلال عدة مسائل، سأتطرق إلى بعضها مع التعليق عليها :
أولا : "محاولة الانتحار تعني الإصابة بالحمق والجنون"، وهذا كلام مرسل لا حظ له من الصواب، إذ كثير من العقلاء من المفكرين والأطر السامية في أكثر من قطر ودولة أقدموا على الانتحار لسبب من الأسباب، وهذا وحده دليل في نقض مقولته، وأن الانتحار ليس مرتبطا بالحمق والجنون.
ثانيا : حاول الكاتب أن يبين التناقض الواقع بين حديث جابر وبلاغ الزهري، وذلك لأن الأول ليست فيه أي إشارة لحزن النبي بسبب انقطاع الوحي، كما لا يتضمن التفكير في الانتحار أو محاولته، وهذا تناقض متوهم، لأن التناقض لا يثبت إلا إذا تم التصريح في حديث جابر بفرح النبي وسروره، وبما أنه لم ينص لا على الفرح ولا على الحزن، فإنه لا تناقض ألبتة، لذا كان بلاغ الزهري متضمنا لزيادة على حديث جابر، وليس متناقضا معه.
ثالثا : أورد الكاتب أن فترة الوحي بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم راحة وفسحة، وهذا مخالف للواقع، لأنه في بداية أمره كانت هناك صعوبات في اتصال بشرية النبي بالوحي المرتبط بالألوهية، لذلك كان النبي يرتجف ويقول "زملوني زملوني"، والوحي الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم وصفه رب العزة بقوله : "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا"، ولم يقل : سنلقي عليك فسحة وراحة كما ادعى الكاتب الموقر، لذلك كان يأتيه الوحي بطرق متعددة، منها صلصلة الجرس وهو أشده عليه كما صرح بذلك صلوات ربي وسلامه عليه، ومع ذلك يقول الكاتب إنه كان فسحة !! وكان يتلقى الوحي فيتصبب عرقا في اليوم الشديد البرد، وأنا لا أعرف الفسحة هكذا.
رابعا : ادعى الأستاذ أن العزم على الانتحار والهم به لا يقوم به إلا من استولى الشيطان على قلبه ووعيه، وذلك محال في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وبنى على هذه المقدمة نتيجة أخطر، وهي أن من تسلط عليه الشيطان مرة واحدة فإن نبوته تحتاج إلى إثبات، وهذا الكلام يوهم القراء أن علماء الأمة لم يقوموا بواجبهم تجاه النبوة والرسالة، وهذا خطأ من وجوه :
1 – الهم بالانتحار والإقدام عليه لم يكن معصية محرمة حينها، حيث لم يوجد نص محرم في تلك الفترة، وقرر العلماء أنه لا تحريم إلا بنص، فهل هناك نص قرآني في سورة العلق أو غيرها من الآيات التي نزلت حينئذ يحرم الانتحار ؟ ومن ادعى تحريم الانتحار في تلك الفترة فعليه بالدليل. ومثال ذلك تحريم التبني الذي ورد متأخرا، وكان قبل ذلك النبي متبنيا زيدا، فهل يعتبر النبي عاصيا ؟ وهل يكون عاصيا بأثر رجعي ؟ معاذ الله. أستغفر الله.
2 – الانتحار كان في شرع من قبلنا، بل كان وسيلة للتوبة عند بني إسرائيل بعد عبادتهم العجل، " فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ"، لذلك كان عَدُّ قتل النفس من باب تسلط الشيطان أو الجنون، مجرد كلام لا عبرة به.
3 – على فرض صحة الرواية، وعلى فرض تحريم الانتحار في تلك الفترة، فإن النبي لم يفعل، بل همّ بالفعل، والهمّ لا يخدش العصمة، والأنبياء غير مؤاخذين به، لذلك همّ يوسف بالمعصية تحقيقا لبشريته، لولا أن رأى برهان ربه، فلم يفعل تحقيقا لعصمته ونبوته.
** خاتمة :
ختم الكاتب بحثه بقوله : "ثبت بالقواطع الشرعية أن محاولة الانتحار محال في حق المعصوم ..."، وقد بحثت في المقال جاهدا عن "القواطع الشرعية" فلم أجدها، نعم، وجدت كلاما مرسلا، وجدت تسفيها للآخر المخالف، وجدت استعلاء وتضخما للأنا، وجدت تنكبا عن منهج البحث العلمي الرصين، وجدت أيمانا مغلظة لإقناع القارئ، ... فهل هذه هي "القواطع الشرعية" التي تُبنى عليها البحوث والدراسات العلمية ؟ وهل بمثل هذه المقالات ننخرط في تنقية تراثنا وتصفيته ؟
نعم، نحن لا نجازف فنقطع بصحة همّ النبي بالانتحار، كما لا نقطع بتكذيب ذلك، ولا نقطع باستحالته ما دام أن توجيه ذلك لا يمس عصمة النبوة في شيء، كما لا نسفه مخالفينا عسى أن يكونوا على صواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* خريج دار الحديث الحسنية

الثلاثاء، 19 مايو 2015

تنقيح صحيحي البخاري ومسلم ضرورة شرعية

 نكاح المتعة: رحمة أم حرام عند السلف؟
    محمد ابن الأزرق الأنجري

نشرت مؤخرا احدى الصحف  حوارا مع فضيلة الدكتور محمد السرار تحت عنوان: "صحيح البخاري نواة للسنة ودعامة لاستقرار المسلمين".
وقد انهالت على المقال سيول من التعليقات، اتفق جلها على عدم التسليم بصحة كل الأحاديث المخرجة في كتاب الإمام البخاري، بل ذهب بعضها حدا من التطرف فأعلن أصحابها بطلان الكتاب جملة وتفصيلا.

ويظهر من كلام هؤلاء المعلقين أنهم مثقفون مسلمون مدفوعون بالغيرة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هكذا ينبغي التعامل معهم وليس بالتشكيك في انتمائهم للدين أو الطائفة على عادة المتسرعين.

وهذا السيل يعني أن فئة عريضة من المسلمين لم تعد تطمئن لأقوال مؤسساتنا الدينية، ولا تصدق شعارات علمائنا حول الصحيحين.

ويعني أيضا أن تأثير منتقدي الصحيحين يزداد تعاظما وتماسكا، وأن محاولات مؤسساتنا وعلمائنا لإثبات "عصمة الصحيحين" لا تسمن ولا تغني من جوع، أي أنها محاولات ضعيفة أمام الحقيقة المتمثلة في قوة موقف منتقدي الكتابين، ولو نسبيا.

فعلماؤنا اليوم، ملزمون شرعا بمراجعة أحاديث الصحيحين، صيانة لما بقي لهم في نفوس الأمة من احترام، وحماية للشباب المتعطش للحق من الارتماء في أحضان الفرق والنحل المنحرفة.

لقد تغير الوضع أيها العلماء، فالعالم أصبح قرية صغيرة، والوصول إلى المعلومات أسهل مما تتصورون، وتأثير الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي أشد من المعاهد والمساجد والمواعظ، وما كان مستورا في بطون الكتب القديمة انكشف وتعرى، ومنتقدو الصحيحين المخلصون كعدنان إبراهيم ومحمد هداية وعدنان الرفاعي... أصبحوا مصدقين عند الشباب والمثقفين رغم حملات الطعن الصادرة عنكم، فتداركوا أنفسكم أيها السادة قبل أن تفقدوا كل شيء، بل قبل أن يحاسبكم الله على التعتيم والتحريف.

إنه لم يعد بإمكانكم التجاهل والتكذيب والإنكار كما كان يفعل أسلافنا رحمهم الله، حيث كانت المصنفات بعيدة المنال، وكانت الكتب الناقدة للصحيحين ككتاب الدارقطني لا تتوفر إلا لدى خاصة الخاصة من المحدثين، فضغط يسير اليوم على فأرة كهربائية يكشف كبرياءكم وجراءتكم، وفي المواقع الإلكترونية رموز يفضحون كذبكم أو تكذيبكم بالواقع، فاتقوا الله في أنفسكم وسنة نبيكم.

لماذا يصر العلماء على "عصمة الصحيحين"؟

يظن السادة العلماء، ومعهم متعصبة الباحثين، أن الإقرار بوجود الروايات الضعيفة في الصحيحين، يؤدي إلى فقدان الثقة بهما، ثم الطعن في السنة الشريفة جملة وتفصيلا، وصولا إلى القدح في كتاب الله تعالى، زعموا. وهم واهمون في ذلك، بل إنهم يسيئون إلى القرآن المحفوظ قبل تأليف الصحيحين وبعدهما.

وأكثر من ذلك، فالإصرار على عصمة الصحيحين هو الذي يهدد مقام السنة النبوية، ويجرئ الملحدين والحداثيين على كتاب الله، لأن نسبة بعض الروايات الخرافية والمنكرة إلى رسول الله، والموجود بعضها في الصحيحين كما تعلمون، يؤدي حتما إلى الشك في نبوته، ويوصل ضرورة إلى التكذيب بالقرآن الحكيم.

والعناد في الدفاع عن أحاديث مناقضة للقرآن الكريم بشكل واضح مفضوح، بحجة كونها مخرجة في الصحيحين، يقوي شبهات الطوائف الإسلامية المتمردة على معتقد السنة والجماعة.

إن الطعن في بعض أحاديث موطأ الإمام مالك، ومصنف عبد الرزاق، ومسند أحمد وغيرها من التصانيف السابقة على تأليف الصحيحين، ثم القدح في كثير من أحاديث السنن الأربعة، وصحاح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرها من التآليف التالية لتصنيف الكتابين، لا يستلزم الطعن والقدح في مجمل السنة النبوية عندكم يا سادة، فلماذا تتهيبون من تضعيف بعض أحاديث الشيخين رحمهما الله؟

إن صنيعكم هذا عجيب غريب، فهلا زعمتم أن البخاري ومسلما، البريئين من تخرصاتكم ودفاعاتكم المتهافتة، نبيان مبعوثان.

أصناف العلماء والباحثين المدافعين عن عصمة الصحيحين:

الصنف الأول: المقلدون المغترون، وجدوا مشايخهم يغنون أغنية عصمة الصحيحين فحفظوها وطفقوا يتغنون بها دون أدنى بحث أو تمحيص، وهذا النوع لا قيمة له في دنيا العلم والدين معا، لكنه عقبة أمام طلبة العلم والباحثين عن الحق.

الصنف الثاني: المقرون بوجود الضعف، لكن يمنعهم الخوف من تقوية المذاهب المخالفة كالشيعة والحداثيين، فينكرون أو يتجاهلون، وهؤلاء أجرم من الصنف الأول، لأنهم يضلون الناس عن علم وبينة.

الصنف الثالث: المعترفون بوجود الضعف في الصحيحين، لكن يمنعهم "الإرهاب الفقهي" من قبل المتعصبين والمقلدين، ويخيفهم فقدان مناصبهم الدينية، فيصمتون في المجالس العامة، ويجهرون بالحق في المجامع الخاصة، وهؤلاء معذورون عندما يسكتون عن الحق، آثمون عندما يدارون فينطقون بالباطل.

لا نعترض على تخريج الضعيف، بل على نفي وجوده ولا ننكر العمل به بشروط:

وجود أحاديث ضعيفة في الصحيحين لا يؤثر على مصداقيتهما، ولا يزحزح رتبتهما بين كتب السنة الشريفة.

ونحن لا ننكر على الإمامين رضي الله عنهما إدخال الضعيف في كتابيهما، لأن الضعيف عندنا صالح للاحتجاج ولو في الأحكام، إذا توفرت شروط محددة، أولها أن لا يكون الضعيف من قسم الموضوع، وأن لا يكون معارضا لصريح الكتاب وصحيح السنة، أو مناقضا للحقائق العلمية والبدهيات العقلية والحكمة البشرية.

والذي ننكره هو إصرار العلماء على نفي تخريج الشيخين للأحاديث الشاذة المعلولة، والروايات الضعيفة المرذولة.

القواعد العلمية هي المعيار وليس وجود الحديث في الصحيحين:

إن قواعد علم الحديث المتفق عليها والمشهورة، قواعد منطقية معقولة لا يسع العاقل إلا أن يحترمها ويلتزمها، وهي الميزان الذي يميز الغث من السمين.

والشيخان رحمهما الله، كانا يعرفان تلك القواعد، بل كانا من جملة المقعدين لها، فالنظر ينبغي أن يتجه إلى مدى احترامهما لتلك المعايير العلمية، لا إلى وجود الحديث في كتابيهما من عدمه.

والشيخان التزما تلك القواعد في معظم الأحاديث، لكنهما أخلا بها وخالفاها في مواضع يسيرة، والرجلان بشر يخطئ وينسى، يتأثر بالمذهب والعاطفة، يجتهد ويتكاسل.

اعتراف الإمام البخاري بوجود الضعيف في جامعه الصحيح:

يكفي للرد على مقدسي الجامع الصحيح أن الإمام البخاري، الذي لم يجعل لكتابه أي مقدمة إلا العنوان الطويل، وهو: (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، لم يحترم ما دلت عليه المقدمة/ العنوان، حيث أدخل فيه العشرات من المعلقات، وهي تمرد على صفة: "المسند".

وروى فيه بعض الروايات الشاذة أو المضطربة أو المعارضة في متونها للقرآن والسنة المتواترة أو حقائق العلم، وذلك خروج على شرط: "الصحيح".

كما أنه أخرج في كتابه الموقوفات، أي أقوال الصحابة، والمقطوعات، أي آراء التابعين وأتباعهم، وهو بذلك ينقض قوله: (من أمور رسول الله وسننه وأيامه).

بل إنه أخرج أحاديث وأشار إلى ضعفها، فجاء في "النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر"(1/ 324): وقال – يقصد ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث -: ثم إن ما يتقاعد من ذلك عن شرط الصحيح قليل، يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه. انتهى. أقول ـ القائل هو ابن حجر: بل الذي يتقاعد عن شرط البخاري كثير ليس بالقليل، إلا أن يريد بالقلة قلة نسبية إلى باقي ما في الكتاب فيتجه، بل جزم أبو الحسن ابن القطان بأن التعاليق التي لم يوصل البخاري إسنادها ليست على شرطه، وإن كان ذلك لا يقبل من ابن القطان على ما سنوضحه. وأما قول ابن الصلاح: "ليس في شيء منه حكم بالصحة على من علقه عنه"، فغير مسلم لأن جميعه صحيح عنده، وإنما يعدل عن الجزم لعلة تزحزحه عن شرطه، وهذا بشرط أن يسوقه مساق الاحتجاج به، فأما ما أورده من ذلك على سبيل التعليل له والرد أو صرح بضعفه، فلا.ه

وهذه أمثلة على معلقات يسوقها البخاري في صحيحه ثم يضعفها:

قال البخاري في الحديث رقم 848: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ «لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ وَلَمْ يَصِحَّ».

وقال: بَابُ مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ، وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ» وَلَمْ يَصِحَّ".

ثم إن الإمام البخاري قسم أحاديثه المسندة إلى أصول من جهة، وشواهد ومتابعات من جهة ثانية، ففي مقدمة فتح الباري لابن حجر(1/ 384): الْفَصْل التَّاسِع فِي سِيَاق أَسمَاء من طعن فِيهِ من رجال هَذَا الْكتاب مُرَتبا لَهُم على حُرُوف المعجم)، ووَالْجَوَاب عَن الاعتراضات موضعا موضعا، وتمييز من أخرج لَهُ مِنْهُم فِي الْأُصُول أَو فِي المتابعات والاستشهادات، مفصلا لذَلِك جَمِيعه.ه

الأنجري: المتابعات والشواهد روايات يتساهل في إسنادها البخاري، فلا يشترط في أصحابها أن يكونوا من أهل الضبط والإتقان، بل يقبل أن يكون الراوي مختلفا في توثيقه، أو مجهول الحال عنده، فقد روى بعض الأحاديث النظيفة إسنادا ومتنا، ثم أتبعها بما يؤكدها كليا أو جزئيا من طريق الرواة المتكلم في ضبطهم أو عدالتهم من قبل النقاد.

والحافظ ابن حجر يعترف بوجود هذا النوع من الرواة، فيقول بعد كلامه المتقدم: إِن خرج لَهُ فِي المتابعات والشواهد والتعاليق، فَهَذَا يتَفَاوَت دَرَجَات (...) وَحَيْثُ يُوصف بقلة الْغَلَط كَمَا يُقَال: سيء الْحِفْظ أَو له أَو أوهام أَو له مَنَاكِير وَغير ذَلِك من الْعبارَات، فَالْحكم فِيهِ كَالْحكمِ فِي الَّذِي قبله، إِلَّا أَن الرِّوَايَة عَن هَؤُلَاءِ فِي المتابعات أَكثر مِنْهَا عِنْد المُصَنّف من الرِّوَايَة عَن أُولَئِكَ. وَأما الْمُخَالفَة وينشأ عَنْهَا الشذوذ والنكارة، فَإِذا روى الضَّابِط والصدوق شَيْئا فَرَوَاهُ من هُوَ أحفظ مِنْهُ أَو أَكثر عددا بِخِلَاف مَا روى بِحَيْثُ يتَعَذَّر الْجمع على قَوَاعِد الْمُحدثين، فَهَذَا شَاذ، وَقد تشتد الْمُخَالفَة أَو يضعف الْحِفْظ فَيحكم على مَا يُخَالف فِيهِ بِكَوْنِهِ مُنْكرا، وَهَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيح مِنْهُ إلا نزر يسير قد بين فِي الْفَصْل الَّذِي قبله بِحَمْد الله تَعَالَى.ه

ثم قال الحافظ في المقدمة1/464 بعدما سرد رجال البخاري المتكلم فيهم: فَجَمِيع من ذكر فِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ مِمَّن احْتج بِهِ البُخَارِيّ لَا يلْحقهُ فِي ذَلِك عَيب لما فسرناه، وَأما من عدا من ذكر فيهمَا مِمَّن وصف بِسوء الضَّبْط أَو الْوَهم أَو الْغَلَط وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ الْقسم الثَّالِث، فَلم يخرج لَهُم إِلَّا مَا توبعوا عَلَيْهِ عِنْده أَو عِنْد غَيره، وَقد شرحنا من ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة ومقنع.ه

قال ابن الأزرق: الحافظ ابن حجر أفضل من استقرأ صحيح البخاري، وها هو يعترف بأن بعض أحاديث الكتاب لم تنضبط لشروط مؤلفه، وأنه اشتمل على أحاديث ساقها البخاري على سبيل التعليل والتضعيف، وعلى أحاديث معلقة ضعيفة، وعلى روايات شاهدة أو متابعة تتضمن الشذوذ والنكارة، فما قولكم؟ وهل ستعاندون أم تتهمون الحافظ؟

والنتيجة أن بعض الشواهد والمتابعات المخرجة في صحيح البخاري، تتضمن زيادات ومخالفات ضعيفة، ينبه عليه الشراح كالحافظ ابن حجر في فتح الباري.

والسؤال المحير المشروع: لماذا تصرون على انتفاء الضعيف عن صحيح البخاري إذا كان هو رحمه الله سبقكم إلى تضعيف بعض مروياته؟ وكان كتابه مشتملا على المعلقات الضعيفة بإقراركم؟ ومتضمنا للمتابعات والشواهد المشتملة على النكارات أو الشذوذ؟ ألا تخجلون وتستحون؟ بل ألا تتقون الله في سنة نبيكم؟

وقد استقرأت تراجم رواة البخاري المطعون فيهم، والذين خرج لهم في المتابعات والشواهد، فوجدت البخاري يسكت عنهم في كتبه الخاصة بالرجال كالتاريخ الكبير، أي أنه لم يستبن حالهم لديه، فلا يجوز عدهم موثقين لمجرد تخريج أحاديثهم في المتابعات والشواهد، بل الرواية لهم في ذلك فقط يرجح ضعفهم لديه.

ومن زعم أن كل راو أخرج له البخاري قد جاوز القنطرة، فهو جاهل أو جاحد أو كاذب.

اعتراف الإمام مسلم بوجود الضعيف في صحيحه:

قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن مراتب أحاديث كتابه: فَأَمَّا الْقِسْمُ الأَوَّلُ فَإِنَّا نَتَوَخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الأَخْبَارَ الَّتِي هِي أَسْلَمُ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا وَأَنْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ فِى الْحَدِيثِ وَإِتْقَانٍ لِمَا نَقَلُوا لَمْ يُوجَدْ فِى رِوَايَتِهِمِ اخْتِلاَفٌ شَدِيدٌ وَلاَ تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ، كَمَا قَدْ عُثِرَ فِيهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَبَانَ ذَلِكَ فِى حَدِيثِهِمْ. فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِى أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ بِالْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، كَالصِّنْفِ الْمُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ فَإِنَّ اسْمَ السِّتْرِ وَالصِّدْقِ وَتَعَاطِي الْعِلْمِ يَشْمَلُهُمْ كَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِى زِيَادٍ وَلَيْثِ بْنِ أَبِى سُلَيْمٍ وَأَضْرَابِهِمْ مِنْ حُمَّالِ الآثَارِ وَنُقَّالِ الأَخْبَارِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلْمِ وَالسِّتْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرُوفِينَ، فَغَيْرُهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ مِمَّنْ عِنْدَهُمْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الإِتْقَانِ وَالاِسْتِقَامَةِ فِى الرِّوَايَةِ يَفْضُلُونَهُمْ فِى الْحَالِ وَالْمَرْتَبَةِ.

ثم قال رضي الله عنه: قَدْ شَرَحْنَا مِنْ مَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ بَعْضَ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ مَنْ أَرَادَ سَبِيلَ الْقَوْمِ وَوُفِّقَ لَهَا، وَسَنَزِيدُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - شَرْحًا وَإِيضَاحًا فِى مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِى الأَمَاكِنِ الَّتِى يَلِيقُ بِهَا الشَّرْحُ وَالإِيضَاحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.ه

قال الأنجري الأمي: خلاصة كلام الإمام مسلم بن الحجاج كما يعرف كل المشتغلين بالعلوم الشرعية أمران:

الأول: أنه يروي أول الأمر أصح حديث لديه في الباب، وهو المروي من طريق الحفاظ الثقات الأثبات، ثم يخرج بعد الرواية الصحيحة روايات تقويها وتزيدها بيانا، وهذه تسمى الشواهد والمتابعات، وأسانيدها مفردة ضعيفة لكونها من طريق أمثال ليث بن أبي سليم الضعيف عند جمهور المحدثين هو وأضرابه.

ويعرف المشتغلون بالحديث، أن الروايات المخرجة في الشواهد والمتابعات تشتمل على الشاذ والمضطرب والمقلوب والمنكر، ومن ذلك حديث سبرة بن معبد في تحريم متعة النساء، فإنه ساقه شاهدا لحديثي مولانا علي وسلمة بن الأكوع، وحديث سبرة ضعيف منكر تفرد به الربيع بن سبرة عن أبيه، وأبوه لم تثبت صحبته، لذلك ضعفه بعض الأئمة صراحة أو تلميحا، كالدارقطني في كتاب الإلزامات والتتبع.

الثاني: قوله رحمه الله: (...عِنْدَ ذِكْرِ الأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا)، صريح في أنه يورد في صحيحه أحاديث معللة، أي ضعيفة، ثم يبين ضعفها.

فهل نصدق الإمام المؤلف، أم المتعصبين المتواردين على التقليد؟

وهل يتجرأ عالم مؤمن عاقل بعد هذا على القول بأن كل حديث في كتاب مسلم صحيح؟ وأن جميع رجال مسلم قد جاوزوا القنطرة؟

فرية أصح الكتب بعد القرآن الكريم:

لم يكن الإمامان البخاري ومسلم يدعيان أن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله، ولم يكن يخطر ببالهما أن العلماء بعدهما سيصل بهم سوء الأدب مع الله، وعين الحمق والتعصب، فيزعمون أن كتابيهما أصح الكتب بعد القرآن مباشرة، فإن هذه المقولة أكبر فرية صدقها الخاصة والعامة من أهل السنة والجماعة، ونحن منهم بحمد الله، لكننا نرفضها ونمقتها.

ولست أشك أن الذي اخترع تلك الفرية شافعي متحرق على مذهبه، وجد صحيح البخاري أفضل كتاب يخدم المذهب، لأن مؤلفه شافعي، وكان رحمه الله يركز على تخريج الأحاديث المؤيدة لمذهبه في الأبواب الفقهية، وحق له ذلك، ولم يكن للشافعية كتاب يضاهي موطأ الإمام مالك أو مسند أحمد، فاهتبل مخترع تلك المقولة السخيفة بصحيح البخاري وسكر عقله المذهبي وانتشى، فما كان أمامه إلا أن يطلق ذلك الاختراع الأرعن.

ويبدو أن الحنابلة قاموا برد الفعل، فأضافوا صحيح مسلم بن الحجاج الحنبلي إلى لائحة أصح الكتب بعد كتاب الله، متنازلين عن إطلاق ذلك على مسند أحمد.

وبالنسبة للمالكية، فكانوا يعتقدون أن الموطأ أصح الكتب بعد القرآن الكريم دهرا، لكن مذهبهم انحسر شرقا، وانحصر غربا، وكان علماء المذهب يرحلون إلى المشرق لطلب العلم، فتشربوا تقديم صحيحي البخاري ومسلم على الموطأ، وعادوا إلى إفريقية والمغرب والأندلس بتلك العقيدة الفاسدة المفسدة إلى اليوم.

أما الأحناف، فأئمة الفقه الأوائل لديهم يقدسون كتاب الآثار المنسوب لأبي حنيفة، بينما يتفق أهل الحديث منهم مع مقدسة صحيحي البخاري ومسلم.

إن الحنابلة والشوافع كانوا مسيطرين على الدراسات الحديثية والفقهية في قلب الشرق الإسلامي، الحجاز والعراق ومصر والشام، وكان أتباع المذاهب الأخرى يتتلمذون على أيديهم، وعالة على كتبهم في علمي المصطلح والأصول، فلا جرم تشيع أكذوبة أصح الكتب بعد كتاب الله: الصحيحان للبخاري ومسلم عليهما الرضوان.

لماذا هي فرية عظيمة؟ ولماذا نغضب لقولها؟

إن هذه المقولة الفرية أدت إلى الاعتقاد بأن كل الأحاديث الواردة في كتابي البخاري ومسلم صحيحة لا تقبل الشك، وأنها وحي كالقرآن الكريم، أي أنها تساوي كلام الله الحكيم أو تقاربه في الدرجة، وهذا هو المعتقد السائد لدى العلماء قبل البلهاء من طائفتنا السنية، ولذلك ينتفضون ضد أي صوت يشكك في رواية من روايات الشيخين، ولو كانت رائحة نكارتها تزكم الأنوف.

وبناء على هذا المعتقد الفاسد المفسد، يزعم الفقهاء الجامدون نسخ أحكام قرآنية بمرويات الشيخين وإن كانت معلولة، ويخصصون بها عموماته، ويقيدون مطلقاته، ويجعلون أحاديث الشيخين حاكمة مهيمنة على كلام الله تعالى، فأفسدوا الشريعة وحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الرهبان والأحبار بالتوراة والإنجيل.

بل إن في الصحيحين عددا من الروايات المناقضة لصريح القرآن، كحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وخيانة مولاتنا حواء لأبينا آدم عليهما السلام، ومحاولة النبي الانتحار لفترة الوحي... وقد تم التصديق عليها لمجرد تخريجها فيهما، رغم أنها أخبار آحاد، وأن بعضها من الإسرائيليات، وبسببها كذب أقوام بمجمل السنة الشريفة، فقبح الله من وضعها ومررها على المغفلين من الرواة، ومعاذ الله أن نصدقها، بل نقسم بأغلظ الأيمان أنها مكذوبة على الحبيب المعصوم وأصحابه الأطهار، ولو أجمعت عليها كل كتب الصحاح.

ثم إن في الصحيحين روايات تناقض العقل والعلم الصريح، كحديث: "لولا بنو إسرائيل ما خنز لحم"، أي لولا أن اليهود زمن موسى كانوا يدخرون المن والسلوى ما تعفنت اللحوم، هكذا قال الشراح من غير إعمال ما وهبهم الله من عقول، وهو كلام إسرائيلي تم تمريره على سيدنا أبي هريرة أو تلامذته في حين من الغفلة، والعقل والعلم يقضيان بكذبه وبطلانه، هدفه تأكيد فضل "شعب الله المختار"، فإن اللحم كان يخنز ويتعفن قبل سيدنا موسى وبعده، بل قبل الديناصورات.

ومثل هذا الحديث الذي لا نتردد في القسم على كونه مختلقا موضوعا، يؤدي إلى الإلحاد أو الطعن في مجمل السنة النبوية، فلا تلوموننا على جراءتنا، فدين الله أحب إلينا من رضاكم أيها السادة، والطعن في رواية منتنة خير من التشكيك في السنة النبوية جملة وتفصيلا.

ونتحداكم أن تجدوا تفسيرا منطقيا لهذا الحديث الإسرائيلي، بحيث يرفع التناقض بينه وبين الحقيقة العلمية، ولا تتهموننا بالمجازفة، فقد قرأنا تفاسير الشراح المتعسفة كلها، فوجدناها تزيد الطين بلة.

وكل محاولات تأويل ذلك الكلام المعتوه، تدل على أن رواة أحاديث الصحيحين، أصنام وأوثان مقدسة عند السادة العلماء سلفا وخلفا، ولو رووا المنكرات والموضوعات شرعا وعقلا.

إن الزعم بمقاربة الصحيحين للقرآن الكريم أكذوبة تفضحها هذه الحقائق التي يعجز علماؤنا عن مخالفتنا فيها، لأنها مقررة في مناهج الدرس عندهم:

الحقيقة الأولى: قال الله تعالى في كتابه المحفوظ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.

دلت هذه الآية ومثيلاتها على أن كلام الله وحده المعصوم من الاختلاف، أي التناقض والاضطراب، وعلى أن أي كلام غير كلام الله، يكثر فيه التنافر والتصادم، وبالتالي لا مجال للتسوية بينهما ولو تشبيها.

ونجد في الصحيحين الحديث الواحد، تتعدد رواياته إلى حد التناقض والتنافر، وهو ما يسميه المحدثون الحديث المضطرب، فيضطرون إلى الجمع ولو تكلفا وتعسفا، فإن عجزوا رجحوا إحدى الروايات على الباقي بالاستناد إلى مرجحات معلومة، ويسمون الرواية الراجحة محفوظة والمرجوحة شاذة، وهذا كثير في الصحيحين، أكتفي بمثال وحيد لإثباته:

في صحيح البخاري الحديث رقم 3228 وصحيح مسلم برقم 6913 أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى. مرتين.

وفي رواية ثانية عند البخاري برقم 6240 ومسلم برقم6912: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى فحج آدم موسى. ثلاثا).

وفي رواية ثالثة عند مسلم رقم 6914: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِى جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ وَأَعْطَاكَ الأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَفَتَلُومُنِى عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَي أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».

وفي رابعة عند البخاري برقم 4459: (التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: آنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ قال له آدم: آنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم؟ قال: فوجدته كتب علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحج آدم موسى).

قلت: هذه الروايات كلها عن سيدنا أبي هريرة، وقد اختلفت وتناقضت، ففي الرواية الأولى: (تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، وفي الثانية: (قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، وشتان بينهما.

وفي رواية أن معصية آدم مكتوبة في التوراة كما هي في القرآن قبل خلق آدم بأربعين عاما، وفي أخرى أنها مكتوبة في التوراة دون تحديد زمن كتابتها.

وفي رواية أن النبي قال: "فحج آدم موسى" مرة واحدة، وفي موضع: "مرتين" وفي آخر: "ثلاثا"، ومخرج هذه الروايات المضطربة واحد.

ولا مجال للجمع بين جملة (قبل أن أخلق)، وبين عبارة: (قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، لأن التوراة كلام الله القديم الأزلي، أي أن التوراة كانت موجودة في أم الكتاب منذ كتب، وقد كتب أم الكتاب المشتمل على كلام الله الأزلي وعلى مقادير العباد قبل خلق السموات والأرض بدليل الحديث الصحيح المخرج عند مسلم وغيره عن جماعة من الصحابة أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ».

ثم تجد خارج الصحيحين ما يوافق حديث عبد الله بن عمرو، فعن أبي هريرة أيضا أن الرسول قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه؟ أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، قال: فقال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، أتلومني على عمل عملته، كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض. قال: فحج آدم وموسى). رواه أحمد ح6176 والترمذي ح 2134 وغيرهما بإسناد صحيح.

وقد خلق الله السموات والأرض قبل خلق أبينا آدم بملايير السنين، وليس بأربعين عاما، فترجح أن جملة (قبل أن أخلق) المخرجة في الصحيحين هي المحفوظة، وأن عبارة (قبل أن يخلقني بأربعين سنة) منكرة زادها أحد الرواة المغفلين، لأنها غير موجودة في كل الطرق، ولأنها معارضة للحديث الصحيح المذكور آنفا، وللحقيقة العلمية، ولا مجال للتعسف في التأويل، فقد رأينا الشراح يتململون تهيبا من صحيح البخاري وسوء أدب مع خالق الناس والبخاري، وصرح بعضهم بمثل ما قلنا على استحياء.

وفي الحديث مشاكل إضافية تدل على تلاعب الرواة وسوء حفظهم له، بل يشم منها ريح اليد اليهودية، إليك البيان:

أولا: تضمن الحديث ما يجعل سيدنا موسى موصوفا بسوء الأدب مع أبيه آدم، بل ومع الله جل جلاله، فهو حسب روايات الحديث وقح عديم الحياء، يكلم أباه باسمه، ويلومه على ما قضاه الله سلفا، ويعيره بالمعصية التي تاب منها، حيث يقول في رواية، لن نصدق نسبتها إلى المعصوم وإن قطعت رقبتنا: "أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ".

بل إن ما تنسبه له الروايات الشاذة يسمه بالجهل والشك في حكمة الله، ومحال أن يصدر ذلك عن واحد من أولي العزم، ولو صدر لما تجرأ المصطفى على ذكره وهو القائل: "اذكروا موتاكم بخير".

ثانيا: تذكر بعض الروايات أن سيدنا آدم عير سيدنا موسى بخطيئة القتل، وأن موسى عيره بمعصية الأكل من الشجرة، وهذا تعاير يتنزه عنه كثير من عامة الناس، فكيف يستجيز عاقل نسبته إلى أنبياء الله؟

والعجيب أن بعض الروايات، تصرح بأن هذا التعاير الهابط، حدث أمام الله جل جلاله، أي أن النبيين الكريمين، لم يتأدبا مع الله تعالى.

ثالثا: صرحت إحدى الروايات أن آية: (وعصى آدم ربه فغوى)، موجودة في التوراة حرفيا، فأقسم بالله أن لليهود دخلا واضحا في إقحامها تشكيكا في كتاب ربنا، وتشويشا على أمتنا.

وبالجملة، فالرواة آفة هذا الحديث، وقد أساؤوا غفر الله لهم، سمعوا القصة من أهل الكتاب محرفة، فخلطوا شطحات اليهود بكلام المعصوم على سبيل الشرح، كما حصل في تفسير قصص القرآن، فإن سيدنا ابن عباس مثلا، كان يسمع روايات اليهود، ثم يفسر بها القرآن دون نسبتها إليهم، ثم يأتي بعده الرواة المغفلون، فيعتقدون أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فيرفعونها إليه.

وقد أشار شراح الحديث إلى بعض أوجه اضطراب وشذوذ روايات هذا الحديث، واستشكلوها، ثم أجابوا عليها بأجوبة لا تسمن ولا تغني من جوع، لأنهم ما كانوا يتجرؤون على الشك في ثبوتها نظرا لوجودها في أصح الكتب بعد القرآن عندهم.

ويوم يصدق علماء الأمة بأنه لا بد من إعادة النظر في مئات الأحاديث المسلمة صحتها مع ما فيها من شذوذ وأوهام، سيتشكل العقل المسلم من جديد على أساس سليم، وتكون الأمة على وعد مع النهضة والعزة.

وقد ألهمني ربي أن أرجح روايات هذا الحديث وأقربها إلى مشكاة النبوة، هي هذه الرواية المروية قبل ظهور الصحيحين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقي آدم موسى، فقال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ثم صنعت ما صنعت؟ فقال آدم لموسى: أنت الذي كلمك الله وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل تجده مكتوبا علي قبل أن أخلق؟ قال: نعم، قال: فحج آدم موسى عليهما السلام). رواها الإمام أحمد في المسند ح9084 بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

وهي رواية خالية من الجدال الذي لا يليق بأنبياء الله، والمعبر عنه في الروايات الأخرى بجملة: (احتج آدم وموسى)، وهي خالية كذلك من التعاير المتبادل، فآدم الأب الرحيم لم يذكر لموسى قتله للقبطي، لأنه لا يجوز له ذلك، ولا يليق بأب ونبي مثله، وموسى عبر بلغة مهذبة فقال: (صنعت ما صنعت)، وطريقة كلامه توحي أنه لقي أبانا آدم فلم يعرفه بداية، فسأله ليتأكد أهو آدم أول إنسان، والمشهور بقصته مع الشجرة، أم هو آدم آخر.

والسؤال الآن: هل تجدون أيها الفضلاء كلاما أعقل وأفضل من هذا الذي قلناه في الذب عن أنبياء الله عليهم السلام؟

وهل تنكرون حدوث التناقضات والزيادات الشاذة أو المنكرة في روايات حديث أبي هريرة المخرجة في الصحيحين؟

وهل يصلح هذا الحديث برواياته المختلفة لتأكيد قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}؟

الحقيقة الثانية:

القرآن الكريم متواتر لفظا ومعنى، حيث قام بإعادة ترتيبه وتصفيفه جماعة من قراء الصحابة بإشراف الخليفة مولانا عثمان بن عفان، وتحت نظر ورقابة عشرات الصحابة اليقظين، واستنادا إلى ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبا في مواد مختلفة غير مرتب.

وبعد الانتهاء من كتابة خمس نسخ من المصحف الإمام، تمت مراجعته وعرضه على كبار الصحابة كمولانا علي، فتم التصديق بالإجماع على أنه كتاب الله كما سمعوه من رسول الله بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل لكلمة بمرادفها، أو حرف بما يقوم مقامه.

ثم بعث سيدنا عثمان كل نسخة إلى إقليم من أقاليم دولته، مصحوبة بقارئ متقن، فكان كل واحد منهم يقرأ على المسلمين في المسجد أو غيره من المصحف الإمام مباشرة، ويعلمهم القرآن كما هو في المصحف الإمام، فيأخذه عنه العشرات، والواحد منهم يعلم المئات أو الآلاف إلى يومنا هذا.

فالقرآن ثابت بالقطع واليقين إلى رسول الله، ثم إلى جبريل، ثم إلى الباري عز وجل.

فهل يتجرأ أي عالم عاقل على كلام الله، ثم يدعي أن هذه الشروط تتوفر في حديث واحد ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، بل وخارج الصحيحين؟ والله وتالله وبالله لم يحصل ذلك ولو في المنام، ومن زعم ذلك فهو زنديق، بل شيطان رجيم.

فحتى الأحاديث المتواترة لم يحصل لها ذلك الشرف الذي خص به الباري سبحانه كتابه المحكم الحكيم، فإنها متواترة شفهيا لا كتابة، وجلها متواترة المعنى وليس اللفظ، أي أن المضمون مشترك، لكنها تختلف عن بعضها بالزيادة والنقص في السياق.

إن 99,99 وأكثر من أحاديث الصحيحين أخبار آحاد، يرويها الواحد أو الاثنان، وتناقلها الرواة من زمن الصحابة إلى عصر الشيخين شفهيا في الغالب، وكل طبقة من الرواة تزيد أو تنقص أو تحرف سهوا أو عمدا أو تلقينا من قبل اليهود والزنادقة المندسين بين عوام المسلمين وخواصهم الطيبين، وحديث احتجاج آدم وموسى خير مثال.

ثم في الصحيحين مئات الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين، بعضها ضعيف.

هذا، وكل من الصحيحين مروي عن المصنف بطريق الآحاد، أي لم يروهما عن الشيخين جماعة كبيرة من تلامذتهما، بل تفرد بالرواية عنهما أفراد لا يرقون إلى مرتبة التواتر، ومع ذلك فنسبتهما صحيحة إليهما.

فكيف تزعمون أيها المسلمون الطيبون، بعد كل هذا، أن الصحيحين أصح الكتب بعد القرآن الكريم؟ وأن أحاديثهما وحي قطعي الثبوت عن النبي العظيم؟

الحقيقة الثالثة:

عفوا أيها السادة، سأكشف للشباب والمثقفين البعيدين عن العلوم الشرعية، هذه الحقيقة المقررة عندكم، ليصدموكم بها إذا عاندتم وكابرتم، وليطمئنوا إلى سلامة رسالتهم القرآنية.

أيها الشباب المخلصون الغيورون على كتاب الله، أيها المثقفون المنزعجون من مناقضة بعض أحاديث الصحيحين للقرآن أو العقل والعلم، لا تحزنوا ولا تتشككوا في ملتكم الحنيفية، فالسادة العلماء يدرسون لطلبتهم قاعدة ناسفة لموقفهم المعاند المكابر.

تقول هذه القاعدة: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، وحديث الآحاد الصحيح غير المتواتر ليس قطعي الثبوت عن رسول الله، وإنما يغلب على الظن أنه من قوله أو فعله بنسبة تتراوح بين 90 و100 في المئة، أي نسبة 10 في المئة هي نسبة الشك في ثبوته.

تبسيط القاعدة: إذا كان كل راو من رواة الحديث بين الشيخين والصحابي ثابت العدالة/الاستقامة ثم الضبط/الحفظ الجيد، وكان السند متصلا، أي كان كل راو تلميذا للراوي الذي فوقه وصولا إلى الصحابي، ولم يلحظ الشيخان شذوذا/مخالفة من الراوي لمن هو أكثر وأحفظ في السند/سلسلة الرواة، أو المتن/الكلام أو الفعل المنسوب إلى رسول الله، ولا علة قادحة/سببا موجبا للطعن والشك في السند أو المتن، فإن الشيخين يعتبران الحديث مستوفيا لشروط الصحة، وبالتالي يدخلانه في كتابيهما.

ومن المحال أن يكون الشيخان قد بذلا كل الوسع والطاقة في دراسة أحاديث كتابيهما حديثا حديثا، فإن ذلك عمل جبار لا يقدر عليه إلا جماعة كبيرة من الحفاظ، ومن ظنهما بشرا لا كالبشر فهو معتوه، ومعاذ الله أن نتبعه في ذلك.

ولدينا الدليل على أنهما لم يستفرغا كل الجهد، حيث نجد في كتابيهما أحاديث ينقضها صريح القرآن، ويدحضها صحيح العقل والبرهان، فلا تجهلوا علينا رعاكم الرحمن.

ومن المقرر عند النقاد أن الراوي مهما كان ثقة فإنه قد ينسى أو يخطئ أو يسيء الفهم فيروي بالمعنى الخطأ، وقد يختلط عليه حديث بآخر، بل قد يطول به العهد فيجعل كلام الصحابي أو التابعي أو الإسرائيلي المتخفي كلاما لرسول الله.

وقد يكون الراوي تلميذا للذي فوقه، لكنه لا يسمع منه الحديث مباشرة، بل يسمعه من أحد أقرانه أو جلسائه الضعفاء، فيخفي ذلك نسيانا أو عمدا، ويروي الحديث عن شيخه مسقطا الواسطة الضعيفة بينهما، وهو نوع من التدليس الذي لم يسلم منه إلا قلة القلة من كبار الأئمة.

بل ربما يحدث ذلك للصحابي، فربما يكون ناسيا أو متصرفا ومغيرا للكلام النبوي...

فهذه الشكوك فرضت على المحدثين أن يقرروا القاعدة المتقدمة.

تطبيق القاعدة: جل أحاديث الشيخين آحادية غير متواترة، يرويها صحابي واحد أو تابعي واحد، وهكذا.

أي أن معظم أحاديث الصحيحين تفيد العلم النظري لا الضروري، بمعنى أنه يغلب على الظن صدورها عن الرسول، وتبقى هناك نسبة من الشك فيها تقارب 10 في المئة.

ونسبة الشك، ولو كانت 01 في المئة، تمنع المؤمن العاقل من النطق بتلك المقولة الفجة.

تصحيح العبارة:

الصواب أن يقال: صحيحا الشيخين أصح كتب الحديث الشريف، وهذا نفسه مردود، فموطأ الإمام مالك أصح منهما بكثير، فعدد الأحاديث المنتقدة عليه لا تتجاوز أصابع اليد، ورجال أسانيده المتكلم فيهم قلة، ثم إن الموطأ مروي عن الإمام بالتواتر، حيث سمعه ورواه عنه أكثر من عشرين نفرا من الأئمة.

وليس في الموطأ أحاديث تخالف القرآن أو العقل والعلم.

ثم إن الإمام مالكا كان أقرب إلى عهد النبوة من الشيخين، وكان أعلم وأحفظ منهما معا، وكان رحمه الله أبعد عن التعصب والمذهبية خلافا للبخاري على وجه التحديد.

فراجعوا موقفكم أيها المنتسبون إلى مذهب إمام دار الهجرة، وتوبوا من تقديم صحيحي الشيخين على موطأ الإمام الذي قال عنه الشافعي رحمه الله فصدق: (ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك رحمه الله)، هذه هي العبارة الثابتة عن الإمام، وقد حرفت إلى: (ما على أديم الأرض بعد كتاب الله، كتاب أصح من موطأ مالك)، على يد أحد المغفلين فراجت، ومعاذ الله أن يقولها مثل الشافعي.

وهذا إمام آخر يعرف كيف يتأدب مع الله فيقول: (ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج).

إنه الإمام الحافظ المتفنن أبو علي النيسابوري شيخ الحاكم صاحب المستدرك على الصحيحين.

ومعنى كلامه أن صحيح مسلم مقدم على صحيح البخاري، وهو مذهب محدثي المغرب قديما، فاسمع يا من يجن إذا تكلم المنصف، وراجع دروسك أيها الطالب المتعسف.

خرافة تلقي الأمة للصحيحين بالقبول:

إذا كانوا يقصدون أن مذاهب أهل السنة والجماعة تلقت الصحيحين بالقبول في الجملة، فهو كلام سليم.

أما إذا زعموا أن الأمة بكل طوائفها، من سنة وشيعة ومعتزلة وزيود وإباضية وقرآنيين، قد استسلمت للصحيحين وأذعنت، فهم يكذبون في واضحة النهار، لأن أهل السنة وحدهم يعتمدون الصحيحين.

ولا يصح الاعتقاد أن علماء السنة مجمعون على صحة كل الأحاديث المخرجة في الصحيحين حديثا حديثا، فلا يزال المحدثون والفقهاء يضعفون ويردون بعض أحاديث الشيخين، بل إن البخاري ضعف أحاديث خرجها تلميذه مسلم، كحديث أبي هريرة مرفوعا: «خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ وَفِى آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ».

فهذا الحديث يجعله البخاري وغيره من كلام كعب الأحبار الإسرائيلي الذي أسلم، لأنه يعارض القرآن، ونتفق معه في ذلك، ونضيف أنه يتناقض مع العلم أيضا، حيث يجعل الفترة بين خلق الحيوانات وخلق آدم أقل من 24 ساعة، وهو كلام كان بالإمكان أن يروجه كعب الإسرائيلي المسلم على أهل عصره، لكنه لا ينطلي اليوم على تلميذ صغير.

ولو أن الإمام البخاري تحاشى حديث: (لولا حواء ولولا بنو إسرائيل)، لأحسن إلى كتابه ونفسه، فهو أبين في مناقضة القرآن من حديث مسلم، فجل من لا يخطئ ولا ينسى.

هذا، وقد ضعف الدارقطني في "كتاب التتبع" أحاديث مروية في الصحيحين، وضعف ابن حزم حديث المعازف، وضعف فقهاء كل المذاهب بعض أحاديثهما وردوها بالشذوذ.

واستنكر العلماء سلفا وخلفا حديث سحر النبي أو محاولة الانتحار.

فمن هي الأمة التي تلقت الصحيحين بالقبول؟ إنها أمة تنتمي إلى عالم الخيال لا الخيول.

رحم الله الإمامين ورضي عنهما، فقد كانا رجلين عظيمين، خدما السنة الشريفة، وكتاباهما يشتملان على ما يقارب خمسة آلاف حديث، فلو ضعفنا خمسمائة منها، تحصينا للشباب والمثقفين، ما تزحزحت رتبتهما في نفوس الأمة بحال.

فعلى المشتغلين بالحديث، الغيورين على حياض الملة، أن يجتهدوا لتنقيح الكتابين الجليلين مما لحق بهما من روايات منكرة أو شاذة، والمعيار هو تلك القواعد التي أسهم الشيخان في تقريرها، قبل أن يتصدع ما بقي من البنيان.

وسأوصف بالتشيع وحب الشهرة والجهل المكعب مرة أخرى، فالله المستعان، والمهم أن تقنعوا الناس بتهافت ما جاء في هذا المقال البركان.

وأرجو من المعلقين أن يتأدبوا مع الإمامين البخاري ومسلم، فهما بريئان مما قيل في كتابيهما وأحاديثهما من غلو، ومعاذ الله أن نبلغ التراب الذي مشيا عليه في طلب علم النبوة.

محمد ابن الأزرق الأنجري
خريج دار الحديث الحسنية