الثلاثاء، 19 مايو 2015

تنقيح صحيحي البخاري ومسلم ضرورة شرعية

 نكاح المتعة: رحمة أم حرام عند السلف؟
    محمد ابن الأزرق الأنجري

نشرت مؤخرا احدى الصحف  حوارا مع فضيلة الدكتور محمد السرار تحت عنوان: "صحيح البخاري نواة للسنة ودعامة لاستقرار المسلمين".
وقد انهالت على المقال سيول من التعليقات، اتفق جلها على عدم التسليم بصحة كل الأحاديث المخرجة في كتاب الإمام البخاري، بل ذهب بعضها حدا من التطرف فأعلن أصحابها بطلان الكتاب جملة وتفصيلا.

ويظهر من كلام هؤلاء المعلقين أنهم مثقفون مسلمون مدفوعون بالغيرة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هكذا ينبغي التعامل معهم وليس بالتشكيك في انتمائهم للدين أو الطائفة على عادة المتسرعين.

وهذا السيل يعني أن فئة عريضة من المسلمين لم تعد تطمئن لأقوال مؤسساتنا الدينية، ولا تصدق شعارات علمائنا حول الصحيحين.

ويعني أيضا أن تأثير منتقدي الصحيحين يزداد تعاظما وتماسكا، وأن محاولات مؤسساتنا وعلمائنا لإثبات "عصمة الصحيحين" لا تسمن ولا تغني من جوع، أي أنها محاولات ضعيفة أمام الحقيقة المتمثلة في قوة موقف منتقدي الكتابين، ولو نسبيا.

فعلماؤنا اليوم، ملزمون شرعا بمراجعة أحاديث الصحيحين، صيانة لما بقي لهم في نفوس الأمة من احترام، وحماية للشباب المتعطش للحق من الارتماء في أحضان الفرق والنحل المنحرفة.

لقد تغير الوضع أيها العلماء، فالعالم أصبح قرية صغيرة، والوصول إلى المعلومات أسهل مما تتصورون، وتأثير الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي أشد من المعاهد والمساجد والمواعظ، وما كان مستورا في بطون الكتب القديمة انكشف وتعرى، ومنتقدو الصحيحين المخلصون كعدنان إبراهيم ومحمد هداية وعدنان الرفاعي... أصبحوا مصدقين عند الشباب والمثقفين رغم حملات الطعن الصادرة عنكم، فتداركوا أنفسكم أيها السادة قبل أن تفقدوا كل شيء، بل قبل أن يحاسبكم الله على التعتيم والتحريف.

إنه لم يعد بإمكانكم التجاهل والتكذيب والإنكار كما كان يفعل أسلافنا رحمهم الله، حيث كانت المصنفات بعيدة المنال، وكانت الكتب الناقدة للصحيحين ككتاب الدارقطني لا تتوفر إلا لدى خاصة الخاصة من المحدثين، فضغط يسير اليوم على فأرة كهربائية يكشف كبرياءكم وجراءتكم، وفي المواقع الإلكترونية رموز يفضحون كذبكم أو تكذيبكم بالواقع، فاتقوا الله في أنفسكم وسنة نبيكم.

لماذا يصر العلماء على "عصمة الصحيحين"؟

يظن السادة العلماء، ومعهم متعصبة الباحثين، أن الإقرار بوجود الروايات الضعيفة في الصحيحين، يؤدي إلى فقدان الثقة بهما، ثم الطعن في السنة الشريفة جملة وتفصيلا، وصولا إلى القدح في كتاب الله تعالى، زعموا. وهم واهمون في ذلك، بل إنهم يسيئون إلى القرآن المحفوظ قبل تأليف الصحيحين وبعدهما.

وأكثر من ذلك، فالإصرار على عصمة الصحيحين هو الذي يهدد مقام السنة النبوية، ويجرئ الملحدين والحداثيين على كتاب الله، لأن نسبة بعض الروايات الخرافية والمنكرة إلى رسول الله، والموجود بعضها في الصحيحين كما تعلمون، يؤدي حتما إلى الشك في نبوته، ويوصل ضرورة إلى التكذيب بالقرآن الحكيم.

والعناد في الدفاع عن أحاديث مناقضة للقرآن الكريم بشكل واضح مفضوح، بحجة كونها مخرجة في الصحيحين، يقوي شبهات الطوائف الإسلامية المتمردة على معتقد السنة والجماعة.

إن الطعن في بعض أحاديث موطأ الإمام مالك، ومصنف عبد الرزاق، ومسند أحمد وغيرها من التصانيف السابقة على تأليف الصحيحين، ثم القدح في كثير من أحاديث السنن الأربعة، وصحاح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرها من التآليف التالية لتصنيف الكتابين، لا يستلزم الطعن والقدح في مجمل السنة النبوية عندكم يا سادة، فلماذا تتهيبون من تضعيف بعض أحاديث الشيخين رحمهما الله؟

إن صنيعكم هذا عجيب غريب، فهلا زعمتم أن البخاري ومسلما، البريئين من تخرصاتكم ودفاعاتكم المتهافتة، نبيان مبعوثان.

أصناف العلماء والباحثين المدافعين عن عصمة الصحيحين:

الصنف الأول: المقلدون المغترون، وجدوا مشايخهم يغنون أغنية عصمة الصحيحين فحفظوها وطفقوا يتغنون بها دون أدنى بحث أو تمحيص، وهذا النوع لا قيمة له في دنيا العلم والدين معا، لكنه عقبة أمام طلبة العلم والباحثين عن الحق.

الصنف الثاني: المقرون بوجود الضعف، لكن يمنعهم الخوف من تقوية المذاهب المخالفة كالشيعة والحداثيين، فينكرون أو يتجاهلون، وهؤلاء أجرم من الصنف الأول، لأنهم يضلون الناس عن علم وبينة.

الصنف الثالث: المعترفون بوجود الضعف في الصحيحين، لكن يمنعهم "الإرهاب الفقهي" من قبل المتعصبين والمقلدين، ويخيفهم فقدان مناصبهم الدينية، فيصمتون في المجالس العامة، ويجهرون بالحق في المجامع الخاصة، وهؤلاء معذورون عندما يسكتون عن الحق، آثمون عندما يدارون فينطقون بالباطل.

لا نعترض على تخريج الضعيف، بل على نفي وجوده ولا ننكر العمل به بشروط:

وجود أحاديث ضعيفة في الصحيحين لا يؤثر على مصداقيتهما، ولا يزحزح رتبتهما بين كتب السنة الشريفة.

ونحن لا ننكر على الإمامين رضي الله عنهما إدخال الضعيف في كتابيهما، لأن الضعيف عندنا صالح للاحتجاج ولو في الأحكام، إذا توفرت شروط محددة، أولها أن لا يكون الضعيف من قسم الموضوع، وأن لا يكون معارضا لصريح الكتاب وصحيح السنة، أو مناقضا للحقائق العلمية والبدهيات العقلية والحكمة البشرية.

والذي ننكره هو إصرار العلماء على نفي تخريج الشيخين للأحاديث الشاذة المعلولة، والروايات الضعيفة المرذولة.

القواعد العلمية هي المعيار وليس وجود الحديث في الصحيحين:

إن قواعد علم الحديث المتفق عليها والمشهورة، قواعد منطقية معقولة لا يسع العاقل إلا أن يحترمها ويلتزمها، وهي الميزان الذي يميز الغث من السمين.

والشيخان رحمهما الله، كانا يعرفان تلك القواعد، بل كانا من جملة المقعدين لها، فالنظر ينبغي أن يتجه إلى مدى احترامهما لتلك المعايير العلمية، لا إلى وجود الحديث في كتابيهما من عدمه.

والشيخان التزما تلك القواعد في معظم الأحاديث، لكنهما أخلا بها وخالفاها في مواضع يسيرة، والرجلان بشر يخطئ وينسى، يتأثر بالمذهب والعاطفة، يجتهد ويتكاسل.

اعتراف الإمام البخاري بوجود الضعيف في جامعه الصحيح:

يكفي للرد على مقدسي الجامع الصحيح أن الإمام البخاري، الذي لم يجعل لكتابه أي مقدمة إلا العنوان الطويل، وهو: (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، لم يحترم ما دلت عليه المقدمة/ العنوان، حيث أدخل فيه العشرات من المعلقات، وهي تمرد على صفة: "المسند".

وروى فيه بعض الروايات الشاذة أو المضطربة أو المعارضة في متونها للقرآن والسنة المتواترة أو حقائق العلم، وذلك خروج على شرط: "الصحيح".

كما أنه أخرج في كتابه الموقوفات، أي أقوال الصحابة، والمقطوعات، أي آراء التابعين وأتباعهم، وهو بذلك ينقض قوله: (من أمور رسول الله وسننه وأيامه).

بل إنه أخرج أحاديث وأشار إلى ضعفها، فجاء في "النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر"(1/ 324): وقال – يقصد ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث -: ثم إن ما يتقاعد من ذلك عن شرط الصحيح قليل، يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه. انتهى. أقول ـ القائل هو ابن حجر: بل الذي يتقاعد عن شرط البخاري كثير ليس بالقليل، إلا أن يريد بالقلة قلة نسبية إلى باقي ما في الكتاب فيتجه، بل جزم أبو الحسن ابن القطان بأن التعاليق التي لم يوصل البخاري إسنادها ليست على شرطه، وإن كان ذلك لا يقبل من ابن القطان على ما سنوضحه. وأما قول ابن الصلاح: "ليس في شيء منه حكم بالصحة على من علقه عنه"، فغير مسلم لأن جميعه صحيح عنده، وإنما يعدل عن الجزم لعلة تزحزحه عن شرطه، وهذا بشرط أن يسوقه مساق الاحتجاج به، فأما ما أورده من ذلك على سبيل التعليل له والرد أو صرح بضعفه، فلا.ه

وهذه أمثلة على معلقات يسوقها البخاري في صحيحه ثم يضعفها:

قال البخاري في الحديث رقم 848: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ «لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ وَلَمْ يَصِحَّ».

وقال: بَابُ مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ، وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاءُ» وَلَمْ يَصِحَّ".

ثم إن الإمام البخاري قسم أحاديثه المسندة إلى أصول من جهة، وشواهد ومتابعات من جهة ثانية، ففي مقدمة فتح الباري لابن حجر(1/ 384): الْفَصْل التَّاسِع فِي سِيَاق أَسمَاء من طعن فِيهِ من رجال هَذَا الْكتاب مُرَتبا لَهُم على حُرُوف المعجم)، ووَالْجَوَاب عَن الاعتراضات موضعا موضعا، وتمييز من أخرج لَهُ مِنْهُم فِي الْأُصُول أَو فِي المتابعات والاستشهادات، مفصلا لذَلِك جَمِيعه.ه

الأنجري: المتابعات والشواهد روايات يتساهل في إسنادها البخاري، فلا يشترط في أصحابها أن يكونوا من أهل الضبط والإتقان، بل يقبل أن يكون الراوي مختلفا في توثيقه، أو مجهول الحال عنده، فقد روى بعض الأحاديث النظيفة إسنادا ومتنا، ثم أتبعها بما يؤكدها كليا أو جزئيا من طريق الرواة المتكلم في ضبطهم أو عدالتهم من قبل النقاد.

والحافظ ابن حجر يعترف بوجود هذا النوع من الرواة، فيقول بعد كلامه المتقدم: إِن خرج لَهُ فِي المتابعات والشواهد والتعاليق، فَهَذَا يتَفَاوَت دَرَجَات (...) وَحَيْثُ يُوصف بقلة الْغَلَط كَمَا يُقَال: سيء الْحِفْظ أَو له أَو أوهام أَو له مَنَاكِير وَغير ذَلِك من الْعبارَات، فَالْحكم فِيهِ كَالْحكمِ فِي الَّذِي قبله، إِلَّا أَن الرِّوَايَة عَن هَؤُلَاءِ فِي المتابعات أَكثر مِنْهَا عِنْد المُصَنّف من الرِّوَايَة عَن أُولَئِكَ. وَأما الْمُخَالفَة وينشأ عَنْهَا الشذوذ والنكارة، فَإِذا روى الضَّابِط والصدوق شَيْئا فَرَوَاهُ من هُوَ أحفظ مِنْهُ أَو أَكثر عددا بِخِلَاف مَا روى بِحَيْثُ يتَعَذَّر الْجمع على قَوَاعِد الْمُحدثين، فَهَذَا شَاذ، وَقد تشتد الْمُخَالفَة أَو يضعف الْحِفْظ فَيحكم على مَا يُخَالف فِيهِ بِكَوْنِهِ مُنْكرا، وَهَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيح مِنْهُ إلا نزر يسير قد بين فِي الْفَصْل الَّذِي قبله بِحَمْد الله تَعَالَى.ه

ثم قال الحافظ في المقدمة1/464 بعدما سرد رجال البخاري المتكلم فيهم: فَجَمِيع من ذكر فِي هذَيْن الْفَصْلَيْنِ مِمَّن احْتج بِهِ البُخَارِيّ لَا يلْحقهُ فِي ذَلِك عَيب لما فسرناه، وَأما من عدا من ذكر فيهمَا مِمَّن وصف بِسوء الضَّبْط أَو الْوَهم أَو الْغَلَط وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ الْقسم الثَّالِث، فَلم يخرج لَهُم إِلَّا مَا توبعوا عَلَيْهِ عِنْده أَو عِنْد غَيره، وَقد شرحنا من ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة ومقنع.ه

قال ابن الأزرق: الحافظ ابن حجر أفضل من استقرأ صحيح البخاري، وها هو يعترف بأن بعض أحاديث الكتاب لم تنضبط لشروط مؤلفه، وأنه اشتمل على أحاديث ساقها البخاري على سبيل التعليل والتضعيف، وعلى أحاديث معلقة ضعيفة، وعلى روايات شاهدة أو متابعة تتضمن الشذوذ والنكارة، فما قولكم؟ وهل ستعاندون أم تتهمون الحافظ؟

والنتيجة أن بعض الشواهد والمتابعات المخرجة في صحيح البخاري، تتضمن زيادات ومخالفات ضعيفة، ينبه عليه الشراح كالحافظ ابن حجر في فتح الباري.

والسؤال المحير المشروع: لماذا تصرون على انتفاء الضعيف عن صحيح البخاري إذا كان هو رحمه الله سبقكم إلى تضعيف بعض مروياته؟ وكان كتابه مشتملا على المعلقات الضعيفة بإقراركم؟ ومتضمنا للمتابعات والشواهد المشتملة على النكارات أو الشذوذ؟ ألا تخجلون وتستحون؟ بل ألا تتقون الله في سنة نبيكم؟

وقد استقرأت تراجم رواة البخاري المطعون فيهم، والذين خرج لهم في المتابعات والشواهد، فوجدت البخاري يسكت عنهم في كتبه الخاصة بالرجال كالتاريخ الكبير، أي أنه لم يستبن حالهم لديه، فلا يجوز عدهم موثقين لمجرد تخريج أحاديثهم في المتابعات والشواهد، بل الرواية لهم في ذلك فقط يرجح ضعفهم لديه.

ومن زعم أن كل راو أخرج له البخاري قد جاوز القنطرة، فهو جاهل أو جاحد أو كاذب.

اعتراف الإمام مسلم بوجود الضعيف في صحيحه:

قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن مراتب أحاديث كتابه: فَأَمَّا الْقِسْمُ الأَوَّلُ فَإِنَّا نَتَوَخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الأَخْبَارَ الَّتِي هِي أَسْلَمُ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا وَأَنْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ فِى الْحَدِيثِ وَإِتْقَانٍ لِمَا نَقَلُوا لَمْ يُوجَدْ فِى رِوَايَتِهِمِ اخْتِلاَفٌ شَدِيدٌ وَلاَ تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ، كَمَا قَدْ عُثِرَ فِيهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَبَانَ ذَلِكَ فِى حَدِيثِهِمْ. فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِى أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ بِالْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، كَالصِّنْفِ الْمُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ فَإِنَّ اسْمَ السِّتْرِ وَالصِّدْقِ وَتَعَاطِي الْعِلْمِ يَشْمَلُهُمْ كَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِى زِيَادٍ وَلَيْثِ بْنِ أَبِى سُلَيْمٍ وَأَضْرَابِهِمْ مِنْ حُمَّالِ الآثَارِ وَنُقَّالِ الأَخْبَارِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلْمِ وَالسِّتْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرُوفِينَ، فَغَيْرُهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ مِمَّنْ عِنْدَهُمْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الإِتْقَانِ وَالاِسْتِقَامَةِ فِى الرِّوَايَةِ يَفْضُلُونَهُمْ فِى الْحَالِ وَالْمَرْتَبَةِ.

ثم قال رضي الله عنه: قَدْ شَرَحْنَا مِنْ مَذْهَبِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ بَعْضَ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ مَنْ أَرَادَ سَبِيلَ الْقَوْمِ وَوُفِّقَ لَهَا، وَسَنَزِيدُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - شَرْحًا وَإِيضَاحًا فِى مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِى الأَمَاكِنِ الَّتِى يَلِيقُ بِهَا الشَّرْحُ وَالإِيضَاحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.ه

قال الأنجري الأمي: خلاصة كلام الإمام مسلم بن الحجاج كما يعرف كل المشتغلين بالعلوم الشرعية أمران:

الأول: أنه يروي أول الأمر أصح حديث لديه في الباب، وهو المروي من طريق الحفاظ الثقات الأثبات، ثم يخرج بعد الرواية الصحيحة روايات تقويها وتزيدها بيانا، وهذه تسمى الشواهد والمتابعات، وأسانيدها مفردة ضعيفة لكونها من طريق أمثال ليث بن أبي سليم الضعيف عند جمهور المحدثين هو وأضرابه.

ويعرف المشتغلون بالحديث، أن الروايات المخرجة في الشواهد والمتابعات تشتمل على الشاذ والمضطرب والمقلوب والمنكر، ومن ذلك حديث سبرة بن معبد في تحريم متعة النساء، فإنه ساقه شاهدا لحديثي مولانا علي وسلمة بن الأكوع، وحديث سبرة ضعيف منكر تفرد به الربيع بن سبرة عن أبيه، وأبوه لم تثبت صحبته، لذلك ضعفه بعض الأئمة صراحة أو تلميحا، كالدارقطني في كتاب الإلزامات والتتبع.

الثاني: قوله رحمه الله: (...عِنْدَ ذِكْرِ الأَخْبَارِ الْمُعَلَّلَةِ إِذَا أَتَيْنَا عَلَيْهَا)، صريح في أنه يورد في صحيحه أحاديث معللة، أي ضعيفة، ثم يبين ضعفها.

فهل نصدق الإمام المؤلف، أم المتعصبين المتواردين على التقليد؟

وهل يتجرأ عالم مؤمن عاقل بعد هذا على القول بأن كل حديث في كتاب مسلم صحيح؟ وأن جميع رجال مسلم قد جاوزوا القنطرة؟

فرية أصح الكتب بعد القرآن الكريم:

لم يكن الإمامان البخاري ومسلم يدعيان أن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله، ولم يكن يخطر ببالهما أن العلماء بعدهما سيصل بهم سوء الأدب مع الله، وعين الحمق والتعصب، فيزعمون أن كتابيهما أصح الكتب بعد القرآن مباشرة، فإن هذه المقولة أكبر فرية صدقها الخاصة والعامة من أهل السنة والجماعة، ونحن منهم بحمد الله، لكننا نرفضها ونمقتها.

ولست أشك أن الذي اخترع تلك الفرية شافعي متحرق على مذهبه، وجد صحيح البخاري أفضل كتاب يخدم المذهب، لأن مؤلفه شافعي، وكان رحمه الله يركز على تخريج الأحاديث المؤيدة لمذهبه في الأبواب الفقهية، وحق له ذلك، ولم يكن للشافعية كتاب يضاهي موطأ الإمام مالك أو مسند أحمد، فاهتبل مخترع تلك المقولة السخيفة بصحيح البخاري وسكر عقله المذهبي وانتشى، فما كان أمامه إلا أن يطلق ذلك الاختراع الأرعن.

ويبدو أن الحنابلة قاموا برد الفعل، فأضافوا صحيح مسلم بن الحجاج الحنبلي إلى لائحة أصح الكتب بعد كتاب الله، متنازلين عن إطلاق ذلك على مسند أحمد.

وبالنسبة للمالكية، فكانوا يعتقدون أن الموطأ أصح الكتب بعد القرآن الكريم دهرا، لكن مذهبهم انحسر شرقا، وانحصر غربا، وكان علماء المذهب يرحلون إلى المشرق لطلب العلم، فتشربوا تقديم صحيحي البخاري ومسلم على الموطأ، وعادوا إلى إفريقية والمغرب والأندلس بتلك العقيدة الفاسدة المفسدة إلى اليوم.

أما الأحناف، فأئمة الفقه الأوائل لديهم يقدسون كتاب الآثار المنسوب لأبي حنيفة، بينما يتفق أهل الحديث منهم مع مقدسة صحيحي البخاري ومسلم.

إن الحنابلة والشوافع كانوا مسيطرين على الدراسات الحديثية والفقهية في قلب الشرق الإسلامي، الحجاز والعراق ومصر والشام، وكان أتباع المذاهب الأخرى يتتلمذون على أيديهم، وعالة على كتبهم في علمي المصطلح والأصول، فلا جرم تشيع أكذوبة أصح الكتب بعد كتاب الله: الصحيحان للبخاري ومسلم عليهما الرضوان.

لماذا هي فرية عظيمة؟ ولماذا نغضب لقولها؟

إن هذه المقولة الفرية أدت إلى الاعتقاد بأن كل الأحاديث الواردة في كتابي البخاري ومسلم صحيحة لا تقبل الشك، وأنها وحي كالقرآن الكريم، أي أنها تساوي كلام الله الحكيم أو تقاربه في الدرجة، وهذا هو المعتقد السائد لدى العلماء قبل البلهاء من طائفتنا السنية، ولذلك ينتفضون ضد أي صوت يشكك في رواية من روايات الشيخين، ولو كانت رائحة نكارتها تزكم الأنوف.

وبناء على هذا المعتقد الفاسد المفسد، يزعم الفقهاء الجامدون نسخ أحكام قرآنية بمرويات الشيخين وإن كانت معلولة، ويخصصون بها عموماته، ويقيدون مطلقاته، ويجعلون أحاديث الشيخين حاكمة مهيمنة على كلام الله تعالى، فأفسدوا الشريعة وحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الرهبان والأحبار بالتوراة والإنجيل.

بل إن في الصحيحين عددا من الروايات المناقضة لصريح القرآن، كحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وخيانة مولاتنا حواء لأبينا آدم عليهما السلام، ومحاولة النبي الانتحار لفترة الوحي... وقد تم التصديق عليها لمجرد تخريجها فيهما، رغم أنها أخبار آحاد، وأن بعضها من الإسرائيليات، وبسببها كذب أقوام بمجمل السنة الشريفة، فقبح الله من وضعها ومررها على المغفلين من الرواة، ومعاذ الله أن نصدقها، بل نقسم بأغلظ الأيمان أنها مكذوبة على الحبيب المعصوم وأصحابه الأطهار، ولو أجمعت عليها كل كتب الصحاح.

ثم إن في الصحيحين روايات تناقض العقل والعلم الصريح، كحديث: "لولا بنو إسرائيل ما خنز لحم"، أي لولا أن اليهود زمن موسى كانوا يدخرون المن والسلوى ما تعفنت اللحوم، هكذا قال الشراح من غير إعمال ما وهبهم الله من عقول، وهو كلام إسرائيلي تم تمريره على سيدنا أبي هريرة أو تلامذته في حين من الغفلة، والعقل والعلم يقضيان بكذبه وبطلانه، هدفه تأكيد فضل "شعب الله المختار"، فإن اللحم كان يخنز ويتعفن قبل سيدنا موسى وبعده، بل قبل الديناصورات.

ومثل هذا الحديث الذي لا نتردد في القسم على كونه مختلقا موضوعا، يؤدي إلى الإلحاد أو الطعن في مجمل السنة النبوية، فلا تلوموننا على جراءتنا، فدين الله أحب إلينا من رضاكم أيها السادة، والطعن في رواية منتنة خير من التشكيك في السنة النبوية جملة وتفصيلا.

ونتحداكم أن تجدوا تفسيرا منطقيا لهذا الحديث الإسرائيلي، بحيث يرفع التناقض بينه وبين الحقيقة العلمية، ولا تتهموننا بالمجازفة، فقد قرأنا تفاسير الشراح المتعسفة كلها، فوجدناها تزيد الطين بلة.

وكل محاولات تأويل ذلك الكلام المعتوه، تدل على أن رواة أحاديث الصحيحين، أصنام وأوثان مقدسة عند السادة العلماء سلفا وخلفا، ولو رووا المنكرات والموضوعات شرعا وعقلا.

إن الزعم بمقاربة الصحيحين للقرآن الكريم أكذوبة تفضحها هذه الحقائق التي يعجز علماؤنا عن مخالفتنا فيها، لأنها مقررة في مناهج الدرس عندهم:

الحقيقة الأولى: قال الله تعالى في كتابه المحفوظ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.

دلت هذه الآية ومثيلاتها على أن كلام الله وحده المعصوم من الاختلاف، أي التناقض والاضطراب، وعلى أن أي كلام غير كلام الله، يكثر فيه التنافر والتصادم، وبالتالي لا مجال للتسوية بينهما ولو تشبيها.

ونجد في الصحيحين الحديث الواحد، تتعدد رواياته إلى حد التناقض والتنافر، وهو ما يسميه المحدثون الحديث المضطرب، فيضطرون إلى الجمع ولو تكلفا وتعسفا، فإن عجزوا رجحوا إحدى الروايات على الباقي بالاستناد إلى مرجحات معلومة، ويسمون الرواية الراجحة محفوظة والمرجوحة شاذة، وهذا كثير في الصحيحين، أكتفي بمثال وحيد لإثباته:

في صحيح البخاري الحديث رقم 3228 وصحيح مسلم برقم 6913 أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى. مرتين.

وفي رواية ثانية عند البخاري برقم 6240 ومسلم برقم6912: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى فحج آدم موسى. ثلاثا).

وفي رواية ثالثة عند مسلم رقم 6914: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِى جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ وَأَعْطَاكَ الأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَفَتَلُومُنِى عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَي أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».

وفي رابعة عند البخاري برقم 4459: (التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: آنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ قال له آدم: آنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم؟ قال: فوجدته كتب علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحج آدم موسى).

قلت: هذه الروايات كلها عن سيدنا أبي هريرة، وقد اختلفت وتناقضت، ففي الرواية الأولى: (تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، وفي الثانية: (قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، وشتان بينهما.

وفي رواية أن معصية آدم مكتوبة في التوراة كما هي في القرآن قبل خلق آدم بأربعين عاما، وفي أخرى أنها مكتوبة في التوراة دون تحديد زمن كتابتها.

وفي رواية أن النبي قال: "فحج آدم موسى" مرة واحدة، وفي موضع: "مرتين" وفي آخر: "ثلاثا"، ومخرج هذه الروايات المضطربة واحد.

ولا مجال للجمع بين جملة (قبل أن أخلق)، وبين عبارة: (قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، لأن التوراة كلام الله القديم الأزلي، أي أن التوراة كانت موجودة في أم الكتاب منذ كتب، وقد كتب أم الكتاب المشتمل على كلام الله الأزلي وعلى مقادير العباد قبل خلق السموات والأرض بدليل الحديث الصحيح المخرج عند مسلم وغيره عن جماعة من الصحابة أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: « كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ».

ثم تجد خارج الصحيحين ما يوافق حديث عبد الله بن عمرو، فعن أبي هريرة أيضا أن الرسول قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه؟ أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، قال: فقال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، أتلومني على عمل عملته، كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والأرض. قال: فحج آدم وموسى). رواه أحمد ح6176 والترمذي ح 2134 وغيرهما بإسناد صحيح.

وقد خلق الله السموات والأرض قبل خلق أبينا آدم بملايير السنين، وليس بأربعين عاما، فترجح أن جملة (قبل أن أخلق) المخرجة في الصحيحين هي المحفوظة، وأن عبارة (قبل أن يخلقني بأربعين سنة) منكرة زادها أحد الرواة المغفلين، لأنها غير موجودة في كل الطرق، ولأنها معارضة للحديث الصحيح المذكور آنفا، وللحقيقة العلمية، ولا مجال للتعسف في التأويل، فقد رأينا الشراح يتململون تهيبا من صحيح البخاري وسوء أدب مع خالق الناس والبخاري، وصرح بعضهم بمثل ما قلنا على استحياء.

وفي الحديث مشاكل إضافية تدل على تلاعب الرواة وسوء حفظهم له، بل يشم منها ريح اليد اليهودية، إليك البيان:

أولا: تضمن الحديث ما يجعل سيدنا موسى موصوفا بسوء الأدب مع أبيه آدم، بل ومع الله جل جلاله، فهو حسب روايات الحديث وقح عديم الحياء، يكلم أباه باسمه، ويلومه على ما قضاه الله سلفا، ويعيره بالمعصية التي تاب منها، حيث يقول في رواية، لن نصدق نسبتها إلى المعصوم وإن قطعت رقبتنا: "أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ".

بل إن ما تنسبه له الروايات الشاذة يسمه بالجهل والشك في حكمة الله، ومحال أن يصدر ذلك عن واحد من أولي العزم، ولو صدر لما تجرأ المصطفى على ذكره وهو القائل: "اذكروا موتاكم بخير".

ثانيا: تذكر بعض الروايات أن سيدنا آدم عير سيدنا موسى بخطيئة القتل، وأن موسى عيره بمعصية الأكل من الشجرة، وهذا تعاير يتنزه عنه كثير من عامة الناس، فكيف يستجيز عاقل نسبته إلى أنبياء الله؟

والعجيب أن بعض الروايات، تصرح بأن هذا التعاير الهابط، حدث أمام الله جل جلاله، أي أن النبيين الكريمين، لم يتأدبا مع الله تعالى.

ثالثا: صرحت إحدى الروايات أن آية: (وعصى آدم ربه فغوى)، موجودة في التوراة حرفيا، فأقسم بالله أن لليهود دخلا واضحا في إقحامها تشكيكا في كتاب ربنا، وتشويشا على أمتنا.

وبالجملة، فالرواة آفة هذا الحديث، وقد أساؤوا غفر الله لهم، سمعوا القصة من أهل الكتاب محرفة، فخلطوا شطحات اليهود بكلام المعصوم على سبيل الشرح، كما حصل في تفسير قصص القرآن، فإن سيدنا ابن عباس مثلا، كان يسمع روايات اليهود، ثم يفسر بها القرآن دون نسبتها إليهم، ثم يأتي بعده الرواة المغفلون، فيعتقدون أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فيرفعونها إليه.

وقد أشار شراح الحديث إلى بعض أوجه اضطراب وشذوذ روايات هذا الحديث، واستشكلوها، ثم أجابوا عليها بأجوبة لا تسمن ولا تغني من جوع، لأنهم ما كانوا يتجرؤون على الشك في ثبوتها نظرا لوجودها في أصح الكتب بعد القرآن عندهم.

ويوم يصدق علماء الأمة بأنه لا بد من إعادة النظر في مئات الأحاديث المسلمة صحتها مع ما فيها من شذوذ وأوهام، سيتشكل العقل المسلم من جديد على أساس سليم، وتكون الأمة على وعد مع النهضة والعزة.

وقد ألهمني ربي أن أرجح روايات هذا الحديث وأقربها إلى مشكاة النبوة، هي هذه الرواية المروية قبل ظهور الصحيحين: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقي آدم موسى، فقال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ثم صنعت ما صنعت؟ فقال آدم لموسى: أنت الذي كلمك الله وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل تجده مكتوبا علي قبل أن أخلق؟ قال: نعم، قال: فحج آدم موسى عليهما السلام). رواها الإمام أحمد في المسند ح9084 بإسناد صحيح على شرط الشيخين.

وهي رواية خالية من الجدال الذي لا يليق بأنبياء الله، والمعبر عنه في الروايات الأخرى بجملة: (احتج آدم وموسى)، وهي خالية كذلك من التعاير المتبادل، فآدم الأب الرحيم لم يذكر لموسى قتله للقبطي، لأنه لا يجوز له ذلك، ولا يليق بأب ونبي مثله، وموسى عبر بلغة مهذبة فقال: (صنعت ما صنعت)، وطريقة كلامه توحي أنه لقي أبانا آدم فلم يعرفه بداية، فسأله ليتأكد أهو آدم أول إنسان، والمشهور بقصته مع الشجرة، أم هو آدم آخر.

والسؤال الآن: هل تجدون أيها الفضلاء كلاما أعقل وأفضل من هذا الذي قلناه في الذب عن أنبياء الله عليهم السلام؟

وهل تنكرون حدوث التناقضات والزيادات الشاذة أو المنكرة في روايات حديث أبي هريرة المخرجة في الصحيحين؟

وهل يصلح هذا الحديث برواياته المختلفة لتأكيد قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}؟

الحقيقة الثانية:

القرآن الكريم متواتر لفظا ومعنى، حيث قام بإعادة ترتيبه وتصفيفه جماعة من قراء الصحابة بإشراف الخليفة مولانا عثمان بن عفان، وتحت نظر ورقابة عشرات الصحابة اليقظين، واستنادا إلى ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبا في مواد مختلفة غير مرتب.

وبعد الانتهاء من كتابة خمس نسخ من المصحف الإمام، تمت مراجعته وعرضه على كبار الصحابة كمولانا علي، فتم التصديق بالإجماع على أنه كتاب الله كما سمعوه من رسول الله بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل لكلمة بمرادفها، أو حرف بما يقوم مقامه.

ثم بعث سيدنا عثمان كل نسخة إلى إقليم من أقاليم دولته، مصحوبة بقارئ متقن، فكان كل واحد منهم يقرأ على المسلمين في المسجد أو غيره من المصحف الإمام مباشرة، ويعلمهم القرآن كما هو في المصحف الإمام، فيأخذه عنه العشرات، والواحد منهم يعلم المئات أو الآلاف إلى يومنا هذا.

فالقرآن ثابت بالقطع واليقين إلى رسول الله، ثم إلى جبريل، ثم إلى الباري عز وجل.

فهل يتجرأ أي عالم عاقل على كلام الله، ثم يدعي أن هذه الشروط تتوفر في حديث واحد ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، بل وخارج الصحيحين؟ والله وتالله وبالله لم يحصل ذلك ولو في المنام، ومن زعم ذلك فهو زنديق، بل شيطان رجيم.

فحتى الأحاديث المتواترة لم يحصل لها ذلك الشرف الذي خص به الباري سبحانه كتابه المحكم الحكيم، فإنها متواترة شفهيا لا كتابة، وجلها متواترة المعنى وليس اللفظ، أي أن المضمون مشترك، لكنها تختلف عن بعضها بالزيادة والنقص في السياق.

إن 99,99 وأكثر من أحاديث الصحيحين أخبار آحاد، يرويها الواحد أو الاثنان، وتناقلها الرواة من زمن الصحابة إلى عصر الشيخين شفهيا في الغالب، وكل طبقة من الرواة تزيد أو تنقص أو تحرف سهوا أو عمدا أو تلقينا من قبل اليهود والزنادقة المندسين بين عوام المسلمين وخواصهم الطيبين، وحديث احتجاج آدم وموسى خير مثال.

ثم في الصحيحين مئات الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين، بعضها ضعيف.

هذا، وكل من الصحيحين مروي عن المصنف بطريق الآحاد، أي لم يروهما عن الشيخين جماعة كبيرة من تلامذتهما، بل تفرد بالرواية عنهما أفراد لا يرقون إلى مرتبة التواتر، ومع ذلك فنسبتهما صحيحة إليهما.

فكيف تزعمون أيها المسلمون الطيبون، بعد كل هذا، أن الصحيحين أصح الكتب بعد القرآن الكريم؟ وأن أحاديثهما وحي قطعي الثبوت عن النبي العظيم؟

الحقيقة الثالثة:

عفوا أيها السادة، سأكشف للشباب والمثقفين البعيدين عن العلوم الشرعية، هذه الحقيقة المقررة عندكم، ليصدموكم بها إذا عاندتم وكابرتم، وليطمئنوا إلى سلامة رسالتهم القرآنية.

أيها الشباب المخلصون الغيورون على كتاب الله، أيها المثقفون المنزعجون من مناقضة بعض أحاديث الصحيحين للقرآن أو العقل والعلم، لا تحزنوا ولا تتشككوا في ملتكم الحنيفية، فالسادة العلماء يدرسون لطلبتهم قاعدة ناسفة لموقفهم المعاند المكابر.

تقول هذه القاعدة: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، وحديث الآحاد الصحيح غير المتواتر ليس قطعي الثبوت عن رسول الله، وإنما يغلب على الظن أنه من قوله أو فعله بنسبة تتراوح بين 90 و100 في المئة، أي نسبة 10 في المئة هي نسبة الشك في ثبوته.

تبسيط القاعدة: إذا كان كل راو من رواة الحديث بين الشيخين والصحابي ثابت العدالة/الاستقامة ثم الضبط/الحفظ الجيد، وكان السند متصلا، أي كان كل راو تلميذا للراوي الذي فوقه وصولا إلى الصحابي، ولم يلحظ الشيخان شذوذا/مخالفة من الراوي لمن هو أكثر وأحفظ في السند/سلسلة الرواة، أو المتن/الكلام أو الفعل المنسوب إلى رسول الله، ولا علة قادحة/سببا موجبا للطعن والشك في السند أو المتن، فإن الشيخين يعتبران الحديث مستوفيا لشروط الصحة، وبالتالي يدخلانه في كتابيهما.

ومن المحال أن يكون الشيخان قد بذلا كل الوسع والطاقة في دراسة أحاديث كتابيهما حديثا حديثا، فإن ذلك عمل جبار لا يقدر عليه إلا جماعة كبيرة من الحفاظ، ومن ظنهما بشرا لا كالبشر فهو معتوه، ومعاذ الله أن نتبعه في ذلك.

ولدينا الدليل على أنهما لم يستفرغا كل الجهد، حيث نجد في كتابيهما أحاديث ينقضها صريح القرآن، ويدحضها صحيح العقل والبرهان، فلا تجهلوا علينا رعاكم الرحمن.

ومن المقرر عند النقاد أن الراوي مهما كان ثقة فإنه قد ينسى أو يخطئ أو يسيء الفهم فيروي بالمعنى الخطأ، وقد يختلط عليه حديث بآخر، بل قد يطول به العهد فيجعل كلام الصحابي أو التابعي أو الإسرائيلي المتخفي كلاما لرسول الله.

وقد يكون الراوي تلميذا للذي فوقه، لكنه لا يسمع منه الحديث مباشرة، بل يسمعه من أحد أقرانه أو جلسائه الضعفاء، فيخفي ذلك نسيانا أو عمدا، ويروي الحديث عن شيخه مسقطا الواسطة الضعيفة بينهما، وهو نوع من التدليس الذي لم يسلم منه إلا قلة القلة من كبار الأئمة.

بل ربما يحدث ذلك للصحابي، فربما يكون ناسيا أو متصرفا ومغيرا للكلام النبوي...

فهذه الشكوك فرضت على المحدثين أن يقرروا القاعدة المتقدمة.

تطبيق القاعدة: جل أحاديث الشيخين آحادية غير متواترة، يرويها صحابي واحد أو تابعي واحد، وهكذا.

أي أن معظم أحاديث الصحيحين تفيد العلم النظري لا الضروري، بمعنى أنه يغلب على الظن صدورها عن الرسول، وتبقى هناك نسبة من الشك فيها تقارب 10 في المئة.

ونسبة الشك، ولو كانت 01 في المئة، تمنع المؤمن العاقل من النطق بتلك المقولة الفجة.

تصحيح العبارة:

الصواب أن يقال: صحيحا الشيخين أصح كتب الحديث الشريف، وهذا نفسه مردود، فموطأ الإمام مالك أصح منهما بكثير، فعدد الأحاديث المنتقدة عليه لا تتجاوز أصابع اليد، ورجال أسانيده المتكلم فيهم قلة، ثم إن الموطأ مروي عن الإمام بالتواتر، حيث سمعه ورواه عنه أكثر من عشرين نفرا من الأئمة.

وليس في الموطأ أحاديث تخالف القرآن أو العقل والعلم.

ثم إن الإمام مالكا كان أقرب إلى عهد النبوة من الشيخين، وكان أعلم وأحفظ منهما معا، وكان رحمه الله أبعد عن التعصب والمذهبية خلافا للبخاري على وجه التحديد.

فراجعوا موقفكم أيها المنتسبون إلى مذهب إمام دار الهجرة، وتوبوا من تقديم صحيحي الشيخين على موطأ الإمام الذي قال عنه الشافعي رحمه الله فصدق: (ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك رحمه الله)، هذه هي العبارة الثابتة عن الإمام، وقد حرفت إلى: (ما على أديم الأرض بعد كتاب الله، كتاب أصح من موطأ مالك)، على يد أحد المغفلين فراجت، ومعاذ الله أن يقولها مثل الشافعي.

وهذا إمام آخر يعرف كيف يتأدب مع الله فيقول: (ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج).

إنه الإمام الحافظ المتفنن أبو علي النيسابوري شيخ الحاكم صاحب المستدرك على الصحيحين.

ومعنى كلامه أن صحيح مسلم مقدم على صحيح البخاري، وهو مذهب محدثي المغرب قديما، فاسمع يا من يجن إذا تكلم المنصف، وراجع دروسك أيها الطالب المتعسف.

خرافة تلقي الأمة للصحيحين بالقبول:

إذا كانوا يقصدون أن مذاهب أهل السنة والجماعة تلقت الصحيحين بالقبول في الجملة، فهو كلام سليم.

أما إذا زعموا أن الأمة بكل طوائفها، من سنة وشيعة ومعتزلة وزيود وإباضية وقرآنيين، قد استسلمت للصحيحين وأذعنت، فهم يكذبون في واضحة النهار، لأن أهل السنة وحدهم يعتمدون الصحيحين.

ولا يصح الاعتقاد أن علماء السنة مجمعون على صحة كل الأحاديث المخرجة في الصحيحين حديثا حديثا، فلا يزال المحدثون والفقهاء يضعفون ويردون بعض أحاديث الشيخين، بل إن البخاري ضعف أحاديث خرجها تلميذه مسلم، كحديث أبي هريرة مرفوعا: «خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ وَفِى آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ».

فهذا الحديث يجعله البخاري وغيره من كلام كعب الأحبار الإسرائيلي الذي أسلم، لأنه يعارض القرآن، ونتفق معه في ذلك، ونضيف أنه يتناقض مع العلم أيضا، حيث يجعل الفترة بين خلق الحيوانات وخلق آدم أقل من 24 ساعة، وهو كلام كان بالإمكان أن يروجه كعب الإسرائيلي المسلم على أهل عصره، لكنه لا ينطلي اليوم على تلميذ صغير.

ولو أن الإمام البخاري تحاشى حديث: (لولا حواء ولولا بنو إسرائيل)، لأحسن إلى كتابه ونفسه، فهو أبين في مناقضة القرآن من حديث مسلم، فجل من لا يخطئ ولا ينسى.

هذا، وقد ضعف الدارقطني في "كتاب التتبع" أحاديث مروية في الصحيحين، وضعف ابن حزم حديث المعازف، وضعف فقهاء كل المذاهب بعض أحاديثهما وردوها بالشذوذ.

واستنكر العلماء سلفا وخلفا حديث سحر النبي أو محاولة الانتحار.

فمن هي الأمة التي تلقت الصحيحين بالقبول؟ إنها أمة تنتمي إلى عالم الخيال لا الخيول.

رحم الله الإمامين ورضي عنهما، فقد كانا رجلين عظيمين، خدما السنة الشريفة، وكتاباهما يشتملان على ما يقارب خمسة آلاف حديث، فلو ضعفنا خمسمائة منها، تحصينا للشباب والمثقفين، ما تزحزحت رتبتهما في نفوس الأمة بحال.

فعلى المشتغلين بالحديث، الغيورين على حياض الملة، أن يجتهدوا لتنقيح الكتابين الجليلين مما لحق بهما من روايات منكرة أو شاذة، والمعيار هو تلك القواعد التي أسهم الشيخان في تقريرها، قبل أن يتصدع ما بقي من البنيان.

وسأوصف بالتشيع وحب الشهرة والجهل المكعب مرة أخرى، فالله المستعان، والمهم أن تقنعوا الناس بتهافت ما جاء في هذا المقال البركان.

وأرجو من المعلقين أن يتأدبوا مع الإمامين البخاري ومسلم، فهما بريئان مما قيل في كتابيهما وأحاديثهما من غلو، ومعاذ الله أن نبلغ التراب الذي مشيا عليه في طلب علم النبوة.

محمد ابن الأزرق الأنجري
خريج دار الحديث الحسنية

0 التعليقات: