من نبع الصحابة والتابعين

رغم أنف أبي ذر
حلمي الأسمر

    من النادر أن أستمتع بخطبة جمعة، ولكن الله أكرمني يوم أمس بخطبة رائعة، مختصرة ومُلهمة ومركزة، وعلمية ومفيدة، بل أكثر من ذلك، لأنها تفتح بابا واسعا من أبواب الأمل والرحمة، يفتحه رب العزة ويغلقه بعض الوعاظ ممن أدمنوا تخويف الناس، وإغلاق أبواب الأمل في وجوههم!
دارت الخطبة كلها حول حديث شريف للنبي -صلى الله عليه وسلم-، عليه إجماع بين رواة الحديث، كما قال الخطيب، وبحثت عنه فوجدته في البخاري ومسلم ومسند أحمد و سنن الترمذي!
   الحديث مروي عن أبي ذر الغفاري،  وهو أحد أكابر أصحاب رسول الله، وهو رابع من دخل في الإسلام وقيل الخامس، وأول من حيّا رسول الله بتحية الإسلام، وأحد الذين جهروا بالإسلام في مكة قبل الهجرة، وقيل انه لم يعبد صنما قط، بل كان في الجاهلية من «المتألهين» الذين يقولون: لا إله إلاّ الله، ولا يعبدون الأصنام، وقال أبو الدرداء: «كان رسول الله -صَلَّى الله عليه وسلم- يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب» فكان ملازما له عليه الصلاة والسلام، يقول أبو ذر: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ نَائِمٌ ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَال « مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ « ، قُلْتُ : وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ « ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ : «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ»، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ، قَالَ : « وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ « ، فَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ هَذَا بَعْدُ ، وَيَقُولُ : وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ ، قال أهل الحديث: هَذَا حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ ويروى أن أَبُا ذَرٍّ خرج وَهُوَ يَجُرُّ إِزَارَهُ، وَيَقُولُ: نَعَمْ ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ .وفي رواية أخرى للحديث، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتاني آت من ربي فأخبرني أو قال بشّرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» إلى آخر الحديث.
     تحدث الخطيب بإسهاب عن معنى الحديث، وهو بيّن المعنى ولا يحتاج لشرح كثير، وإن أفاض العلماء في شرحه والغوص في دلالاته، وبعضهم ضيق واسعا، وآخرون أبقوا الباب واسعا على من ارتكب الكبائر، خاصة السرقة والزنا، ونقل الخطيب بعض ما قاله العلماء في هذا الباب، ومنه أن الكبائر والذنوب لا تنقض إيمان صاحبها بالكلية ولكنها تنقص من كمال إيمانه بقدرها... كما أن المعاصي مهما عظمت لا تحجب صاحبها عن الجنة ولا تحكم له بالخلود في النار... حتى وإن مات مصراً على فعلها.. فهو حينئذ في مشيئة الله عز وجل أن شاء عفا عنه وهو الغفور الرحيم... وإن شاء عذبه بها وهو العزيز الحكيم... ثم يخرج من النار طاهراً مطهراً إلى الجنة، وذلك ما دام لقي ربه على التوحيد لا يشرك به شيئاً.
   وهذه الحقيقة العقائدية يوضحها رسول الله ‏- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏ لأبي ذر – رضي الله عنه – عندما ظنّ أن الكبائر تحول دون دخول صاحبها الجنة حتى وإن أتي بالتوحيد، فبين له النبيّ ‏- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏ خطأ هذا الظنّ ويؤكد له ثلاث مرات أن من مات على التوحيد دخل الجنة وإن أصاب من المعاصي والذنوب ما أصاب، فإن كان ممن عصمهم الله تعالى من اقتراف الكبائر فهو من أول الداخلين، وإن مات مصراً على كبيرة فهو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ما يتطهر من ذنوبه ثم يدخل الجنة، يقول النووي – رحمه الله: «واعلم أن مذهب أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال، وأن كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من العاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من البر ما عمل». وهذا مذهب أهل السنة والجماعة هو الذي يوافق عدل الله ورحمة الله وحكمته.
أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري المدني (93-179هـ / 711-795م) فقيه ومحدِّث مسلم، وثاني الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي. اشتُهر بعلمه الغزير وقوة حفظه للحديث النبوي وتثبُّته فيه، وكان معروفاً بالصبر والذكاء والهيبة والوقار والأخلاق الحسنة، وقد أثنى عليه كثيرٌ من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: «إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه بعد التابعين». ويُعدُّ كتابه "الموطأ" من أوائل كتب الحديث النبوي وأشهرها وأصحِّها، حتى قال فيه الإمام الشافعي: «ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صواباً من موطأ مالك». وقد اعتمد الإمام مالك في فتواه على عدة مصادر تشريعية هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب.
وُلد الإمام مالك بالمدينة المنورة سنة 93هـ، ونشأ في بيت كان مشتغلاً بعلم الحديث واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، فحفظ القرآن الكريم في صدر حياته، ثم اتجه إلى حفظ الحديث النبوي وتعلُّمِ الفقه الإسلامي، فلازم فقيه المدينة المنورة ابن هرمز سبع سنين يتعلم عنده، كما أخذ عن كثير من غيره من العلماء كنافع مولى ابن عمر وابن شهاب الزهري، وبعد أن اكتملت دراسته للآثار والفُتيا، وبعد أن شهد له سبعون شيخاً من أهل العلم أنه موضع لذلك، اتخذ له مجلساً في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، وقد عُرف درسُه بالسكينة والوقار واحترام الأحاديث النبوية وإجلالها، وكان يتحرزُ أن يُخطئ في إفتائه ويُكثرُ من قول «لا أدري»، وكان يقول: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». وفي سنة 179هـ مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يوماً ثم مات، وصلى عليهأميرُ المدينة عبد الله بن محمد بن إبراهيم، ثم دُفن بالبقيع.
المصدر=
ar.wikipedia.org

0 التعليقات: