الخميس، 19 فبراير 2015

مصير الدولة القُطرية نحو الوحدة أو التفتت


مطاع صفدي
هل أصبح الدفاع عن خارطة سايكس ـ بيكو ذخيرةً أخيرةً للـ (النضال) القومي أو الوطني.
فهذه الخارطة مهددة بالزوال ليس هي الوحدة العربية بين الحدود وبين أقطارها، بل هي التجزئة الأقوامية التي ستمزق جغرافيتها. فبعد أن تعلم أجيال العرب طيلة ما يقرب من قرن، أن خارطة سايكس ـ بيكو هي أساس الهزيمة الحضارية الكبرى لمشروع النهضة العربية الشاملة، وقد تحطمت في عتباتها مختلف محاولات التغيير الانقلابي والثوري لبعض عقباتها الكأداء، نقول أنه بعد أن اتهمت تلك الخارطة بتفريخ الخطايا التي اتّهم بها عصرُ الاستقلال الوطني الزائف لما بعد الحرب العالمية الثانية، ها هي تحولات الربيع العربي إلى الخريف الإرهابي تجعل شعوب تلك الخارطة تخشى على كياناتها من مزيد من التفتت والتقويض، كأنما أمست القطريات أوطاناً شبه أبدية لسكانها وتستحق ما هو أكثر من التعلق العاطفي بها، بل الدفاع عنها وبذل الدم والروح للحفاظ عليها حتى لا تتحول هذه الكيانات في الحدس الشعبي الراهن إلى مجرد أشلاء مبعثرة عن الوطن مضادة له، في حين أنها هي كل ما تبقى لها منه.
ما بعد القطريات لن تكون هي وحدة (الأمة) بل إنها الأشلاء القائمة في مستنقع من دماء بعضها الملتهم لبعضها الآخر فكيف ولماذا تنقلب البديهيات السياسية والفكرية على أعقابها هكذا.
 لا شك أن تراكم الأخطاء حتى الصغيرة منها، ومن دون أن تُواجه بحلولها المناسبة، سوف يصل بالأمور العامة إلى أسوأ نتائجها.. ولعل الحالة الراهنة لأقطار المشرق، من شمال جزيرة العرب إلى جنوبها، لن تجعل من قطرياتها ساحات لتمارين هذا الصنف المبتكر من الثورات الملغومة بأضدادها؛ القابلة للإنقلاب على ذاتها. وليس ذلك بفعل(تآمرات) خارجية دائماً، بل لعله أدهى، حسب التفسيرات الشائعة إذ إن انقلاب الثورة على ثوابتها لا يكون إلا بفعل أعطائها الذاتية ما تعجز عن كبح منسوب للقمع بالغ الذروة لدى الخصم العنيد.
ما نجحت فيه الدولة القطرية خلال الحقبة السابقة على انطلاق الربيع، والموصوفة بمرحلة الاستقلال الوطني (المزعوم طبعاً)، هو تنامي تحصينها أمنياً، ليس ضد عدوها الإسرائيلي، بقدر ما كان موجهاً استباقياً نحو أعداء الداخل. فقد تقدمت مناعة الأجهزة الأمنية إلى مستوى مضاعفة الكيان المجتمعي للشعب بكيان آخر للرقابة السرية وفعاليات تدخلاتها في مختلف شؤون الحياة اليومية للأفراد والجماعات.
وفي مثل هذا الواقع من استحالة الحركات الجماهيرية الواسعة، كانت المتغيرات ذات طبيعة فئوية وفوقية. كانت الصيغة الانقلابية هي السائدة، هي الصانعة لعناوين الانعطافات في مسيرة الدولة القطرية، وإن ادعت أكثرها أسماء الثورات ورفعت أيديولوجياتها.
لقد أجهضت الصيغة الانقلابية معظم نوازع التحرر التلقائي لدى النخب الطليعية من أجيال المرحلة الاستقلالية. كانت هذه الصيغة هي القائدة الفعلية لمتغيرات تلك المرحلة. كانت هي المنتصرة الأخيرة في كل معركة مصيرية، هي المستفيدة الأولى من تراكم حصائل الخراب التي ترثها عن أمثالها من الانقلابات السابقة الفاشلة. أنها (المؤسسة الأمنية) وحدها النامية فيما دعي بعصر التنمية على أنواعها، وما فوق كل مؤسساتها الأخرى الحاملة للخصائص النهضوية المصطنعة. فحين انطلقت الثورة الربيعية أخيراً كان عليها أن تواجه كل هذا التراث من تجارب القمع الفريدة في التاريخ العالمي المعاصر. وهي التجارب المكللة بالنجاح في معظمها، أي المحققة لأهداف أسيادها، وإن زال معظمهم كأشخاص، لكن نماذجهم التي فرغت من أجسادهم، ستظل تستقبل أجساداً أخرى.فالنموذج القمعي السيادي المتفوق دائماً  والمسيطر. وعشائره هم الورثة الحافظون لتقاليد أصنامهم الكبار.لذلك فإن هذه الثورة الربيعية مقدر لها ألا تكافح الجيل الراهن من سلالة أسياد القمع فحسب، بل كأنها مطلوب منها أن تجهز ليس على موسم أخير من أشواك الصحارى، بل عليها أن تُفرغ كل صحراء حتى بقايا رمالها العقيمة، أن تجتثّ منها جذورها الجافة وتربتها السقيمة معها.
خلال السنوات الأربع من عمر هذا الربيع لم يتبق جذر فاسد في عمق الرمال العربية إلا وظهر معربداً على وجه البسيطة. لم يعد القمع حكراً لأسياده من طواغيت الدولة القطرية، أمسى القمع حالة شعبوية وفردوية وفئوية في وقت واحد.
صار القمع يتسمَّى جهاداً. وخصومه يسمونه إرهاباً. أما (الثورة) ورجالها فإنهم مشردون، مترحلون ما بين هوامش هذه الأسماء جميعها.. بل قد يبدو الأمر مختلفاً عن كل هذه التصنيفات. والأصح هو القول أن زمن التصنيف والتصنيفات قد ولّى. مثلما أن خارطة سايكس ـ بيكو باتت تعيش أيام زوالها، ذلك أن مفردات مصطلحاتها في علومها السياسية والاجتماعية فقدت راهنيتها على الأقل. فهل هي إذن خارطةً للفوضى، حينما يغدو كل تعيين لها خارج ملفوظاتها الحرفية قد يعتبر افتئاتاً على مضمونها. فالفوضى كفيلة بتجاوز كل تعريف يدعي استيعابها هي وهوامشها معها. في حين لو نطقت الفوضى معرفةً بذاتها لما رأت في نفسها كتابا متمتعاً بمتن وهوامش، بل قد تصر على أنها هي فقط مجرد هوامش. وإن بَدَتْ باحثة عن متنٍ دائماً، لكن دون جدوى. ومن يقترح إهداءها نموذجاً عنه، ولو مؤقتاً، سيكتشف أنه كان يجري وراء سراب.
أليست عودة الرأي العام الشرقي في معظم دوله إلى التشبث بأقطارهم، بكياناتها القائمة، أي بعيوبها ، أليست هذه الظاهرة لتنبئ عن خوف غريزي شبه جماعي عما قد يتأتى عن تغيير في الجغرافية [الوطن] من(فوضى) تغيير في التاريخ، في إنسان الوطن الجديد هذا تساؤل وارد ومشروع، لكن قد يقف في وجهه تغيير آخر، وهو في سياق التحول الفوري، ونصه كما يلي: في عصر الإرهاب الحالي قد تودع الدولة القطرية حدودها، فإن لم تنفتح على آفاق أبعد منها، فإنها مهددة بإنفراط عقدها إلى أصغر فتات في بنية مجتمعها. ما يعني أن التاريخ قد يعود أقوى من الجغرافية ذلك هو الرهان المتبقي للربيع ضد الفوضى. أن تصبح سرابات الصحارى واحات حقيقية، وإن في مخيال شاعر ثائر..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي

0 التعليقات: